على من يضحك رئيس الوزراء العراقي السيّد نوري المالكي والسفير الأميركي في بغداد زلماي خليلزاد بعد البيان المشترك الذي صدر عنهما قبل أيّام؟ من يصدّق، في ضوء ما يشهده العراق يوميّاً، أيّ كلمة في البيان المشترك؟ من يصدّق خصوصاً ما ورد في البيان عن أن لدى الحكومة quot;جداول زمنيةquot; لحل المشاكل في البلاد في وقت يزداد عدد القتلى يومياً وتزداد الهوة بين الشيعة والسنة أتّساعاً فيما بدأت الخلافات العميقة تطال الوضع داخل كل طائفة من الطائفتين بدليل ما يشهده الجنوب العراقي من مواجهات مسلّحة بين الشيعة أنفسهم؟ من يصدّق أخيراً أن الجانبين ملتزمان علاقات quot;جيّدة وقويّةquot; من أجل تحقيق الأهداف التي ستتيح للعراق أن يكون دولة quot;ديموقراطية مستقرّةquot;؟
من الواضح أن هناك أسباباً تدفع السفير الأميركي ألى السعي من أجل أصدار مثل هذا البيان. في مقدّم الأسباب أن الأدارة الأميركية في حاجة ألى بيان من هذا النوع لأعتبارات مرتبطة بالوضع الداخلي. هناك بعد أيّام أنتخابات تشريعية يمكن أن تفضي ألى خسارة الحزب الجمهوري أكثريته في مجلس النواب للمرّة الأولى منذ ما يزيد على عشر سنوات، كما يمكن أن يخسر الجمهوريون حتى الأكثرية في مجلس الشيوخ. وهذا يعني في كلّ الأحوال أن أدارة الرئيس بوش الأبن ستفقد سيطرتها على الكونغرس الذي يستطيع أن يخلق لها متاعب من العيار الثقيل. من هذا المنطلق ليس أمام الأدارة سوى التظاهر بأنّ كل شيء يسير حسب الخطّة المرسومة في العراق بهدف واضح يتمثّل بالحدّ من خسائرها في الأنتخابات، ذلك أنّ السؤال الذي بات مطروحاً في واشنطن ليس هل سيفقد الحزب الجمهوري أكثريته في مجلس النوّاب، بل ألى أي حدّ ستكون هزيمته كبيرة في حال لم تحصل معجزة وهل سيخسر مجلسي الكونغرس( الشيوخ والنوّاب) أم ستقتصر خسارته على مجلس النوّاب؟
يمكن أذاً أن نجد تفسيراً، حتى لا نقول عذراً، لتصرّف السفير الأميركي الساعي ألى تغطية الوضع الذي تعاني منه الأدارة في واشنطن. لكن ما لا يبدو مفهوماً هو كيف يستطيع رئيس الوزراء العراقي القبول ببيان يدرك جيّداً أنّه لا يعني شيئاً ما دام ليس في أستطاعته السيطرة على أيّ من الميليشيات المسلّحة التي تتحكم بالمناطق العراقية المختلفة وهي ميليشيات تابعة لأحزاب مذهبية بما فيها الحزب الذي ينتمي أليه المالكي. لا شكّ أنّ رئيس الوزراء العراقي يدرك قبل غيره أن حكومته فشلت في تأدية المطلوب منها وأنّ الموضوع الآن هو البحث في مرحلة ما بعد الأنسحاب الأميركي من العراق في وقت يبدو جليّاً أن الأدارة في واشنطن تبحث عن مخرج من المأزق الذي وجدت نفسها فيه. والملفت في هذا المجال أنّ الجمهوريين منقسمون بين من لا يزال يعتقد أنّ في الأمكان أستعادة السيطرة على الوضع عن طريق أرسال مزيد من القواّت ألى العراق وبين من يدعو ألى أعداد خطة للأنسحاب التدريجي من البلد، قد تستغرق سنة أو سنتين، بما يحفظ بعضاً من ماء الوجه وترك العراقيين يقررون مصيرهم بأنفسهم. هؤلاء يصرّون على الأنسحاب تفادياً لتكرار تجربة فيتنام حتى لو كان ثمن الأنسحاب حرباً أهلية في معظم الأراضي والمناطق العراقية تلي الحرب الأهلية الدائرة حالياً في مناطق ومدن معيّنة على رأسها بغداد والمنطقة المحيطة بها. أما الديموقراطيون فهم على غير أستعداد لتقديم أي خطّة محددة تتعلّق بالعراق ويكتفون بالأستفادة من نقمة أكثرية الأميركيين على سياسة الأدارة. ولعلّ أقصى ما يمكن أن يذهبوا أليه ما أعلنته نانسي بيلوزي، المتوقع أن تصبح رئيساً لمجلس النوّاب في حال تحقيق الديموقراطيين أنتصاراً في الأنتخابات، عن أنّ الأنسحاب من العراق يجب أن يبدأ فوراً وأن ينتهي في أواخر السنة 2007.
ربّما كانت الحقيقة، أو ما هو قريب من الحقيقة، ما بدأ يتحدّث عنه مسؤولون بريطانيون يدركون تماماً أن على بلدهم البحث جدّياً في كيفية الخروج من العراق. وأذا وضعنا جانباً مواقف رئيس الوزراء توني بليرالتي هي أقرب ألى المكابرة من أي شيء آخر، نجد أن الكلام الذي بدأ يتسرب عن المسؤولين العسكريين والسياسيين في لندن يصبّ في خانة واحدة هي أن لا جدوى من البقاء في العراق حيث باتت أيران تمتلك أوراقاً قويّة وأن البلاد متّجهة ألى التقسيم. ويؤكّد الأتجاه ألى التقسيم ما يتوافر من معلومات لدى الذين يزورون العراق ويجولون في مناطقه. ما يشاهده هؤلاء هو بمثابة فظاعات لا يدرك العالم الخارجي سوى القليل عنها. يكفي ما قاله رجل دين شيعي في كربلاء عن أن المدينة تستقبل يومياً ما يزيد على مئة جثة لشيعة قتلهم أرهابيون ينتمون ألى تنظيمات سنّية متطرفة بعضها مرتبط بquot;القاعدةquot; والبعض الآخر ببقايا البعث. هذا الرقم جاء من كربلاء فقط، فماذا عن المناطق الأخرى وماذا عن السنّة الذين تقتلهم ميليشيات شيعية لا هم لها سوى quot;تنظيفquot; مناطق معيّنة ممن تعتبرهم quot;تكفيريينquot;. الأكيد أن مشكلة خطيرة من هذا المستوى لا يعالجها مؤتمر مثل ذلك الذي أنعقد أخيراً في مكّة. مثل هذا المؤتمر لن يضع حدّاً للقتل والذبح وعمليات التهجير في العراق. مثل هذا المؤتمر ليس سوى دليل جديد على قصر النظر لدى بعض الأطراف العربية التي تعتقد أن مجرّد الكلام عن مصالحة بين السنة والشيعة في العراق يعني أن المصالحة تمت. الكلام شيء والفعل شيء آخر. ثمة فارق كبير بين التمنيات والواقع. في الأمكان جمع مئة عالم دين من السنّة والشيعة من العراق ومن غير العراق. وفي الأمكان ألطلب من هؤلاء توقيع مئة بيان مثل بيان مكة المكرّمة عن أنquot;دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم حرام، فلا يجوز التعرّض لمسلم شيعي أو سنّي بالقتل أو الأيذاء أو الترويع والعدوان على ماله، أو التحريض على شيء من ذلك وأجباره على ترك بلده أو محلّ أقامته أو أختطافه أو أخذ رهائن من أهله بسبب عقيدته أو مذهبهquot;. ولكن هل توقّف القتل لحظة في العراق؟ زاد القتل بعد مؤتمر مكة. الأكيد أن ليس في العالم من يرفض الكلام الذي تضمّنته الوثيقة الصادرة عن المؤتمر الذي دعت أليه السعودية. لكن الأكيد أيضاً أن ليس ممكناً في عالمنا هذا وفي ظلّ ما يدور في العراق عقد مثل هذا النوع من المؤتمرات التي لا فائدة تذكر منها بأستثناء أنّها تكشف مدى العجز العربي من جهة ومدى غياب الوعي لخطورة ما يحصل في هذا البلد الذي كان ألى ما قبل فترة قصيرة بلداً عربيّاً.والأهمّ من ذلك، أنّه لا يجوز للأمين العام لمنظمة المؤتمر الأسلامي أكمل الدين أحسان أوغلي القول أن الوثيقة quot;تحظى بتأييد ديني وسياسي في العراقquot; ما دام كلّ الذين باركوها، على رأسهم كبار المراجع الدينية بما في ذلك آية الله السيستاني، أمتنعوا عن أرسال من يمثّلهم ألى مؤتمر مكة.
لم تعد هناك فائدة من الكلام في شأن كلّ ما له علاقة بالعراق. هناك بكل بساطة واقع مختلف يتمثّل في أن الولايات المتحدة قررت أعتماد سياسة جديدة في العراق ولم تعد تثق بالحكومة الحالية التي تبيّن أنها غير قادرة على التعاطي مع الميليشيات الحزبية التي لديها أرتباطات مباشرة بالنظام الأيراني أضافة ألى أنّها غير قادرة على وضع حدّ للأرهاب الذي تمارسه التنظيمات السنّية المتطرفة.
العراق ألى أين؟ لا بدّ من تصديق الأنكليز الذين يتحدّثون أكثر من أي وقت عن التقسيم. ولا بدّ من الأعتراف بأنّ العرب كانوا أكبر الخاسرين من عملية الأجتياح الأميركية للبلد. هل أفضل من مؤتمر مكة لأظهار مدى فشلهم وبعدهم عن الواقع؟ لكن السؤال الذي لا جواب عنه، أقلّه حتى الآن، هو الآتي: أنه سؤال من شقّين أوّلهما، ما دام الشيعة ستكون لهم دولتهم في الجنوب الغني بالنفط، وما دام الأكراد ستكون لهم دولتهم أو كيانهم متى ضمنوا حصة معقولة من نفط كركوك، ماذا سيحل ببغداد المحاطة بالشيعة والتي يفترض أن تكون عاصمة دولة السنّة العرب؟ أما الشقّ الثاني من السؤال، فهو ما دامت أيران القوة المنتصرة في الحرب الأميركية على العراق وهي تضغط على المالكي وغير المالكي للتعجيل في أعدام صدّام حسين عدوّها التاريخي اللدود، ما الذي ستفعله قوة أقليمية كبيرة أخرى مثل تركيا معنية مباشرة بما يدور في العراق؟ هل تقبل الخروج خاسرة من الحرب وأن يكون تقسيم العراق على حسابها، أي أن ينسحب الأميركيون من دون أن تحصل ولو على نقطة نفط من كركوك أو على منطقة نفوذ لدى جارها. أكثر من ذلك، هل تقبل تركيا بدولة أو حتى بكيان كردي من دون ثمن ما في العراق؟ أياً يكن الجواب عن شقي السؤال، يظلّ أن قضية العراق دخلت مرحلة جديدة قد تكون أكثر تعقيداً من كلّ المراحل السابقة، مرحلة سدّ الفراغ الذي سيخلّفه الأنسحاب الأميركي بغض النظر عما أذا كان سيكون أنسحاباً سريعاً أو على مراحل قد تستغرق ما يزيد على سنة أو سنتين...
التعليقات