تمهيد
نريد أن نقيم جولة مطولة بعض الشي في عالم الصحابي الكبير العباس بن عبد المطلب، عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لا لنستوفي حياته بالمعنى التقليدي، وليس هناك من مادة كافية وشا فية لإنجاز مثل هذا العمل ، بل لنكتشف أو نسكتشف العلاقة الخفية بين المعرفة والسلطة .
إن مراجعة بسيطة لساحة الموروث عن عم النبي (العباس) تطلعنا على محاولة ضخمة تهدف بالجوهر مشروعاَ منحازا بشكل دقيق، لا يتكلم المشروع بلغة مكشوفة، بل بلغة مسكونة بذاك الهدف البعيد، ولذلك يتسلل إلى القاع النفسي للقارئ بهدوء، تتوالد الموروثات العباسية ــ نسبة للعباس نفسه ـ عن الهدف، وذلك في داخل المتلقي في سياق إنتمائه لمجتمع معين، محكوم سلفا بمقاييس دخلت حيز الأزل بفعل عمل اللاشعور، فيما هي حادثة بلغة الفلسفة.
لا نريد هنا أن نتصدي لهذه المورثات على ضوء علم الجرح والتعديل الذي أصبح مناط بحث نقدي قاس في الايام الأخيرة، وأنا ألجا إليها استحسانا وتعزيزا وليس بناء وتشييدا، ولكن نريد تلمًّس معادلات العلاقة بين السلطة والمعرفة، فالعباس ليس عم النبي هنا، بل هو جد العباسيين الذين أسسوا الدولة العباسية، ولذا نفتقد هذه العلاقة بوضوح في عالم عم آخر، ذلك هو الحمزة!!!
وتتظافر عوامل النظر والمتابعة لمعادلة السلطة والمعرفة في خصوص الموروث العباسي ـ نسبة لعم النبي الكريم ـ لأن السيرة كتبت في العصر العباسي، وبطلب عباسي، ولاجل غرض حدِّد جزئيا بطابع عباسي، كما مر بنا سابقا.
وهي محاولة تبدا من جذور لتتفرع إلى نهاية في غاية الدقة والهدفية، جذور المشروع هو تاريخ الانتماء للإسلام، فالعباس أسلم قبل معركة بدر!!
يتحدث الذهبي عن ذلك في بداية ترجمته للعباس فيقول (قيل: أسلم قبل الهجرة، وكتم إسلامه، وخرج مع قومه إلى بدر، فأُسِر يومئذ، فإدعى أنه مسلم، فالله أعلم) / المصدر 2 رقم 11 /.
إذن هناك محاولة لدمج العباس بالزمن الإسلامي منذ لحظاته الأولى! فهو أسلم قبل الهجرة، وقد أدرك الذهبي التناقض، ذلك أن العباس كان من المؤسَّرين في بدر، فكيف تتم المعادلة؟ من هنا تأتي قضية الإسلام الخفي، فهل هناك لعبة؟
لقد حسم صاحب (الأصابة) بقوله القاطع بأنه أسلم يوم بدر، ولكن تبقى عملية تظهير تاريخ السلطة من خلال تعميق الجذر النسبي في الضمير الاجتماعي، كي يتقوى على الماضي بالمقدس .
نقرا في طبقات بن سعد (أخبرنا محمد بن عمير: حدَّثني إبن حبيبة،عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن إبن عباس، قال: كان العباس قد أسلم قبل أن يهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة) / المصدر 4 ص 31. والرواية ضعيفة باكثر من راو.

شاهد نفسه!
تتخذ عملية الإنقاذ هذه إخراجا ذكيا، بحيث يكون الشاهد على ذلك الإسلام الخفي هو صاحب المشكلة نفسه (... حدَّثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: بعثتْ قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أسراهم، ففدى كل قوم أسيرهم، بما تراضوا.وقال العباس: يا رسول الله،إني كنت مسلما) والراوية ضعيفة بـ (حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس...)، ولا أدري كيف يخفى إسلام العباس على النبي الكريم؟ ولكن كلام إبن اسحق يدحض هذا الإدعاء (قال إبن اسحق: وكان أكثر الأسارى فداء يوم بدر العبَّاس، أفتدى نفسه بمئة أوقية من ذهب)!
يروي ذلك ا بن سعد مع زيادات مهمة (... عن إبن اسحق قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعبَّاس بن عبد المطلب حين أنتُهِي به إلى المدينة: يا عباس أفد نفسك وابن أخيك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن ا لحارث، وحليفك عُتبة بن عمرو بن جحدم أخا بني الحارث بن فهر فإنك ذو مال. قال: يارسول الله كنت مسلما ولكن القوم استكرهوني. قال: الله أعلم بإسلامك، إن يك ما تذكر حقا فالله يجزيك به، فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا، فافد نفسك...)/ المصدر 4/ ص 14 / والرواية مرسلة.

وكان راعي المسيرة!
ولكن إسلام العباس قبل بدر، أو قبل الهجرة قد لا يضيف شيئا، فهناك من أسلم قبله، وهم من العبيد وسذج المجتمع، وسادته أيضا، ومن هنا يتوسل بنو العباس وغيرهم من كتابهم وصنائعهم بما هو أعمق من ذلك، علاقة العباس بصميم الدعوة، دعوة محمد التي قامت على أساسها وبفضلها دولة بني العباس بالذات.
لقد كان للعباس موقع في صميم الحدث الكوني الكبير، وبالتالي، يجب أن ينعطف أثر ذلك على شرعية هذه الدولة أو أهميتها أو ضرورة التعامل معها بنحو من الوثوقية المستمدة من شاهد حسي وعملي ذي وقع في الضمير المسلم.
لقد كان العباس يستوثق لأبن أخيه من المؤمنين به!! كان شاهد العصر الخاص، هناك يعمل في الخفاء، كان اكثر من شاهد، كان يعمل في مستقبل الدعوة، يرسي دعائمها المادية، ففي طبقات بن سعد (أخبرنا محمَّد بن عمر قال: حدَّثني عبد الله بن يزيد الهدلي، عن أبي البدّاح بن عاصم بن عدي بن عبد الرحمن بن عويم بن ساعدة، عن أبيه: لما قدمنا مكة قال لي سعد بن خثيمة ومعن بن عدي وعبد الله بن جبير: يا عويم إنطلق بنا حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنسلم عليه، فإنا لم نره قط، وقد آمنا به، فخرجت معهم فقيل لي هو في منزل العباس بن عبد المطلب، فرحلنا عليه فسلّمنا وقلنا له: متى نلتقي؟ فقال العباس بن عبد المطلب: إن معكم من قومكم مَن هو مخالف لكم فأخفوا أمركم،حتى ينصدع هذا، ونلتقي نحن وأنتم، فنوضح لكم الأمر، فتدخلون على أمر بيِّن. فوعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، الليلة التي في صبحها النفر الآخر أن يوافيهم أسفل العقبة حيث المسجد الحرام اليوم وأمرهم أن لا ينبّهوا نائما ولا ينتظروا غائبا) / المصدر ص 7 /
فالعباس بن عبد المطلب هنا أمين الدعوة، الذي يؤمِّن لها دروب السلام الخفي، وتتصاعد وتيرة الحبكة في رواية تالية (أخبرنا محمد بن عمر بن عبيد بن يحي،عن معاذ بن رفاعة بن رافع قال: خرج القوم تلك الليلة، ليلة النفر الأوَّل بعد هذه يتسللون، وقد سبقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم،إلى ذلك الموضع، ومعه العباس بن عبد المطلب ليس معه أحد غيره lt; وكان يثق به في أمره كله lt; فلما أجتمعوا كا ن أوّل من تكلم العباس بن عبد المطلب فقال: يا معشر الخزرج، وكانت الأوس والخزرج تُدعى الخزرج. إنكم قد دعوتم محمدا إلى ما دعوتموه إليه، ومحمد إعزّ الناس في عشيرته يمنعه والله من كان منّا على قوله...) ويستمر العباس يشرح لهم ويبين لهم ما ينتظرهم من قتال ونزال، بل يمتحن خبرتهم بالقتال والنزال، ويمتحن عدتهم من دروع استعدادا للحرب المحتملة، وفي نهاية الرواية نقرأ (.. والعباس بن عبد المطلب آخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكد له البيعة تلك الليلة على الأنصار)!
فالعباس إذن كان يلازم الحدث الضخم في عز مسيرته، في سر مسيرته، فهل يترك ذلك ظلاله شرف أبناءه وهم يؤسسون دولتهم؟
في تضاعيف الرواية كلمات بسيطة ولكنها تجيِّر التاريخ (... وكان ـ محمد ـ يثق به ـ بالعباس ـ في أمره كلّه)، فالعباس يضاهي جبريل هنا، جبريل أمين القرآن في السماء، والعباس أمين المسيرة على الأ رض! حبكة دقيقة، تحيل كل الحاضر، وكل المستقبل إلى ماض محدد بالضبط. ولكن في سند الرواية الأ ولى نصادف (أبو البداح بن عاصم بن عدي...) له ذكر في تهذيب التهذيب / 12 رقم 4 / ولكن من دون مدح أو ذم، تُوهِم أن له صحبة وليس كذلك، والواقدي متهم! وهو عمدة الر وايتين!!!
العباس كان ينظّم المسيرة، يضع لها الخطة الدقيقة، كان راعي التاريخ (أ خبرنا محمد بن عمر قال: حدَّثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة،عن الحارث بن الفضل، عن سفيان بن أبي العوجاء قال: حدَّثني من حضرهم تلك الليلة والعباس بن عبد المطلب آخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: يا معشر الأنصار أخفوا جرسكم فإن علينا عيونا ، وقدِّموا ذوي أسنانكم فيكونون الذين يلون كلامنا منكم فإنَّا نخاف قومكم عليكم، ثمّ إذا بايعتم فترّقوا إلى مجالكم وأكتموا أمركم، فإن طويتم هذا الأمر حتى يتصدع هذا الموسم فأنتم الرجال، وأنتم لما بعد اليوم...) / طبقات بن سعد ص 8 /. وا لرواية ضعيفة بمجهولية (منْ حضرهم)، وفي السند سفيان بن أبي العوجاء، فقد صنَّفه أحد الرجاليين على الضعفاء من الطبقة ا لثالثة / مغني الذهبي رقم 2484 /
تلح الرواية باتجاه تظهير العباس كقوة محركة للتاريخ النبوي، وبطريقة حية ذكية، ومن خلال ترابط فني بين الشواهد (حدّثنا محمد بن عمر قال: حدَّثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة عن سليمان بن سُحيم قال: تفاخرت الأوس والخزرج فيمن ضرب على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليلة العقبة أوَّل الناس، فقالوا: لا أحد أعلم به من العباس بن عبد المطلب،فسألوا العبَّاس فقال: ما أحد أعلم بهذا مني، أوَّل من ضرب على يد النبي صلى الله عليه وسلم من تلك الليلة أسعدبن زرارة ثم البراء بن معرور، ثم أ ُسيِّد بن الحضير) / طبقات بن سعد ص 9 / فنحن هنا نجد أنفسنا في تواصل مع الرواية السابقة، وكأنها تعزيز لصدقها وموضوعيتها، ولكن للأسف الشديد الرواية مرسلة بـ (سليمان بن سُحيم)! كذلك هي الرواية التي جاءت على ذات المنوال في طبقات بن سعد (... عن عامر الشعبي قال: إنطلق النبي عليه السلام بالعباس بن عبد المطلب، وكان العباس ذا رأي، إلى السبعين من الأنصار عند العقبة...)، والرواية مرسلة بـ (عامر الشعبي)!

شرف الأسر السماوي
قد لا ينقذ كل ذلك من غمز إجتماعي بسلطة بني العباس، فعار الأسر ربما يسلخ كل هذا النسج الجميل، من هنا تتألق فكرة الأسر السماوي، فهي فكرة تقلب المفاهيم، وتغير معادلات الحكم، وتخلق بنية جديدة للتعامل مع هذه المفردة الخطيرة في البنية التحتية للأخلاقية العربية في ذلك الوقت. فالرجل لم يأسره ذلك المسلم البسيط، الذي هاجر هاربا بدمه من مكة إلى المدينة، بل لم يقدر أحد على أسره، إنه أسير ملك عظيم، يماهي طوله الفاره، ولونه الأبيض، وكثافة جسده القوي المتين، بل وحتى صلعته اللامعة! وقد مر بنا كيف أن الروايات تحيل الأسر إلى شرف! ذلك أن من يأسره ملَك كريم إنما يحمل وساماً مفارِقا، يعزله عن مجرى التاريخ الناسوتي، ويدمجه بدقة في عالم اللاهوت الواسع المدهش. وعليه تكون محاولة تظهير العباس تسير في عروج التكامل خطوة خطوة، وسواء كانت جميعها مخطَّطة أم هي أجزاء متناثرة هنا وهناك، كل جزء نال حظه من صناعة الملحمة، فهي في النتيجة يمكن أن تشكل معالم مسيرة مقصودة. وفي هذا السياق تندرج محاولة تبرئة العباس من حرب الرسول في بدر، فهو مُسْتكرَه، لم يكن يرضى بذلك، قادته الظروف التي هي أقوى من إرادته، وبذلك تتكامل حلقات تظهير العباس ـ عم النبي ـ كنموذج آخر، له خصوصياته التي ينفرد بها، فهو في طرف كان يعيش في ضمير الحقيقة الإسلامية، وهو من طرف ثان، كان أمين سر المسيرة، وهو من طرف ثالث لم تدنسه جريمة حرب قريش لمحمد، فالمضطر لا حرج عليه، فهل هناك مقتربات أخرى تصب في المحصلة النهائية؟

قمة التظهير
نعم، هناك ربما ما هو أهم وأخطر!

تروي بعض المجاميع الحديثية أن النبي الكريم كان يردد (العم صنو أبيه)، وذلك في إشارة إلى عمِّه العباس بن عبد المطلب، وحسب إستحقاقات هذه المعادلة، أن العباس بمثابة أب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن ثم تتأسس علاقة أخوة بين بني العباس الحكّام ومحمد النبي، فيسري نفح من روح النبوة إلى جسد هذه الخلافة! ونحن إذا نظرنا إلى قيمة النسب في الأدب العربي كقوة مؤسسة للعلاقة تتواصل مع توارث الحقوق والواجبات والاستحقاقات بين أبناء الأب الواحد، نكون قد أدركنا قيمة هذه المعادلة التي يرسمها المأثور المذكور. فهناك إذن خطة عمل تتجاذب عناصرها بدقة وحيوية، تتجاذب بعضها بعضا في نسيج منوط بنفسه، بحيث يشكل وحدة واحدة.
فليس إذن غريبا أن يئن الرسول ليلته في بدر بسبب أنين العباس من الأسر (حدّثنا العبّاس بن عبد الله بن معبد عن بعض أهله عن إبن عباس قال: لما أمسى القوم يوم بدر والاسارى محبوسون في الوثاق فبات رسول الله صلى الله عليه وسلم ساهراَ أوّل ليله، فقال له أصحابه: يا رسول الله ما لك لا تنام؟ فقال: سمعت أنين العبّاس في وثاقه،فقاموا إلى العبّأس فأطلقوه فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم) / طبقات ص 13 / والرواية مرسلة، وعلى غرارها رواية أخرى يرويها إبن سعد عن جعفر بن برقان عن يزيد بن الاصم (ما أسهرك يا نبي الله؟ فقال: أنين العباس. فقام رجل فأرخى من وثاقه...) / المصدر ص 13 / والرواية مرسلة، لأن يزيد الأصم ولد بعد وفاة النبي الكريم كما يقول صاحب التهذيب.
ليس مخالفا للفطرة ولا سنن الحياة ولا سنن الدين أن يئن إبن الأخ لأنين عمه بسبب أسر أو ألم حتى وإن كان بينهما خلاف عقدي عميق، ولكن هل جيئ بهذا الخبر لإقرار هذه الحقيقة؟ أم أن هناك هدفا أعمق؟