تعزيز الرؤيا المزعومة بالنظير!!!

هذه الرؤيا ــ رؤيا عاتكة عمة النبي الكريم ــ يبدو كانت بحاجة إلى معزز من نوعها، وبالفعل كانت هناك رؤيا ثانية لها علاقة طولية بالرؤيا الأولى ، فإذا كانت الأولى قبل أن يصل (ضمضم) بالخبر، فأن الثانية بعد أن وصل (ضمضم) بالخبر! بل وبعد أن تجهزت قريش وتحركت ووصلت إلى الجُحفة ــ وهي تزحف نحو محمد لتؤدبه وأصحابه الكرام.
تقول رواية إبن اسحق عن إبن عباس ــ وهي الرواية العمدة ــ حول الرؤيا الثانية (... وأقبلت قريش حتى وصلت الجحفة رأى جهيم بن الصلت بن مخرمة بن ا لمطلب بن عبد مناف رؤيا، فقال : رأيت فيما يرى النائم، وإني لبين النائم واليقظان إذ نظرت إلى رجل قد أقبل على فرس حتى وقف، ومعه بعير له، ثم قال : قُتِل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، و أبو الحكم بن هشام ، وأمية بن خلف، وفلان وفلان، فعدد رجالا ممن قُتِل يوم بدر، من أشراف قريش، ثم رأيته ضرب في لبة بعيره، ثم أسله في العسكر، فما بقي من خباء من أخبية العسكر إلى أصابه نضح من دمه).
تقول الروا ية ذاتها (قال ـ إبن اسحق برواية إبن عباس ــ فبلغت أبا جهل، فقال : وهذا أيضا نبي آخر من بني المطلب، سيعلم غدا من المقتول إن نحن إلتقينا)!
ونظرة متفحِّصة للرؤيا الثانية تطلعنا على أنها على طول الرؤيا الأولى، كانت إمتدادا لها، هناك سير من العام إلى الخاص، من الكلي إلى الجزئي، من الغموض إلى الوضوح، أي هناك قدر يسير نحو ذاته، يتحقق خطوة خطوة، فإذا كانت الرؤيا الاولى خالية من الأسماء الصريحة، فهذه الرؤيا تذكر أسماء صريحة، وبالتالي، هناك تطور جوهري في مسير الرؤيا. وقد عدها أبو جهل هي الأخرى لعبة، لا تختلف في هدفها البعيد عن هدف الرؤيا المُطلبية الاولى، وأتخذ منها موقف التحدي، أي كرر الموقف ذاته من الرؤيا الأ ولى.
هناك تجاذب مثير بين كل من الرؤيا الأولى والرؤية الثانية، كلاهما مطَّلبيَّة المصدر، كلاهما نذير مخيف للقريش بالمصير الأسود ، كلاهما كان محل تندر إبي جهل، بل الرؤيا الثانية بمثابة تفسير وتحليل للرؤيا الأولى ، فهل هناك فن أبدع من هذا الفن ؟ وهل هناك قدرة أعمق من هذه القدرة على نحت رواية متسلسلة منطقيا، أو متسلسلة بالحدث، ذلك التسلسل الذي يفرض عليك ربط المستقبل بالحاضر بالماضي ؟ وأعود للقول أننا بين يدي مسيرة قصصية مخدومة تتوسطها عقدة مركبة ، يسبقها تمهيد، ويلحقها تصعيد، والنتيجة مخدومة سلفا.

مصير بائس!

لقد كانت صاحبة الرؤيا الأولى عاتكة بنت عبد المطلب، عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإذا كان إبن سعد في طبقاته يقول أنها هاجرت وأسلمت، فأن كاتب السيرة المعروف(أحمد زيني دحلان مفتي الديار الشافعية في مكة المكرمة ) يقول (وهي مختلف في إسلامها) / هامش الحلبية 1 / ص 365 /. ولست أدري كيف يخفت هذا الصوت في أدبيات العرب والمحدثين وأهل التاريخ وهو صوت النذير الذي كان سببا في تصعيد حدة المعركة، وفي تسريع خطواتها نحو قدرها المقدَّر! الصوت الذي استفز أبا جهل، وحول نية محمد إلى حقيقة ماثلة بين يدي قريش!!
كذلك الحال مع صاحب الرؤيا الثانية، أي جهيم المطلبي، فهو أشبه غائب من التاريخ، فيما هو الذي حدد مصير زعماء قريش في رؤيا، وجاء الواقع مصدقا لهذه الرؤيا الغيبية الميتافيزية الغريبة، فكيف يغيب مثل هذا الصوت في لجة التداول السحري والعجائبي والسمري في قصص واحاديث وتاريخ العرب ؟
الرؤيا سواء كانت الأولى أو الثانية حدث مهم، خطير، ومن تجاربنا الوجدانية أن الحدث الكبير إذا إقترن بمجهول، أو إنسان عادي، سيكون ذلك مدعاة شهرة، وتتبع، وتاريخ، فالأقرب للواقع والواقعية، من وجهة نظر وجدانية، كان من المفروض أن تشهر هذه الرؤيا صاحبها، ولا يبقى مجهولا في طي التاريخ، حيث لا نعرف عنه إلا لمما، بعضه مشكوك فيه. فهي ليست أكثر من كونها عمة رسول الله، تزوجها في الجاهلية أمية بن المغيرة، وولدت له عبد الله وزهير، الاول أعرض عن الإسلام والثاني اسلم وممن لعب دورا في نقص صحيفة المقاطعة، ولكن تغيب في لجة التاريخ، فيما هي بشرّت بتغيير التاريخ!!!
نعم تنسب بعض الأسفار شعرا لعاتكة، ولكن يعلق أهل الدقة والتحقيق من القدامى أنها أشعار مشكوكة النسبة لصاحبتها!! كذلك الحال مع مكملها في الرؤيا، أي جهيم، فلم تنصفه رؤياه من الشهرة والحضور، فيما هي التي أصدقت الواقع، وكشفت عنه قبل أن يقع!!!

حوليات مهمة حول الرؤيا!

أراني مضطرا للكلام عن هذا السند مرة أخرى، لأسباب فنية لا أعتقد تغيب على القاري اللبيب، فأقول هو نفسه سند الرواية العمدة، بحكم المرسلة لأن إبن عباس لم يحضر الواقعة، والراوية الأول ــ أي إبن اسحق ــ شخصية محل إشكال وتداول مزعج، وذات الرؤيا جزء من خبر يعترف إبن إسحق أنه ليس صافيا، بل هو خليط من مجموعة أخبار، إجتهد بجمعها بعضا ببعض، رغم أختلاف وتعدد الأسانيد.
لقد رأي جهيم بن عبد المطلب بن عبد مناف، رأي فيما يرى النائم أن عتبة بن ربيعة قتل، وأن شيبة بن ربيعة قتل، وأن أبا جهل قُتل ، وان أمية بن خلف قد قتل، وكان ذلك هو الواقع، فقد نال كل واحد من هؤلاء مصيره المحتوم في معركة بدر، أي القتل، ومعهم زعماء كبار من قريش، وهو الأمر الذي نوهت عنه الرؤيا أيضا (... وفلان وفلان... من أشراف قريش)، وليس هناك دليلا على كذب(الرؤيا) من تحققها حرفيا في العالم الخارجي.
وكم هو قدر مخيف ومؤلم أن تبني أمة فكرها ومصيرها وتاريخها وعزتها ومعاركها مستشهدا برؤى ؟ ذلك هو القدر التافه.
[email protected]
يتبع