استذكار كـ (مدخل)

مر علينا في فقرة (تلخيص سير المعركة) الإشارة إلى رؤية (عاتكة بن عبد المطلب) التي كانت تنذر بشر عميم سوف يدخل كل بيت من بيوت قريش، تلك الرؤية التي كانت تنبئ بأن راكبا على أقبل على بعير له،حتى وقف بالأبطح ــ موقع بين مكة ومنى ــ وراح يهدد وينذر القوم (قريش) بل يشتمهم بأعلى صوته (ألا أنفروا يالَغُدُر...) ــ كناية عن الشتيمة ــ بأن ينتظروا مصرعهم المخيف، ثم تحول الرجل إلى ظهر الكعبة بعد أن إجتاز المسجد الحرام ومن هناك جدد نذيره مقرونا بالشتيمة ذاتها، وفي الثالثة تحول إلى جبل (قبيس) المشرف على مكة من شرقها، وهنا تفجرت الرؤية عن نتيجتها العظمى، فقد صرخ بذات الشتمية والنذير، ورمى صخرة (فأقبلت تهوى، حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضَّت ـ تفتت ـ فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار إلاّ دخلتها منها فلقة...).
كانت هذه الرؤية قبل أن يصل (ضمضم) الذي أرسله أبو سفيان لقريش كي يعلمها خبر تصدي محمد للقافلة القرشية!
أخبرت عمة النبي الكريم (عاتكة بنت عبد المطلب) أخاها عم النبي (العباس بن عبد المطلب) وأئتمنته على كتمانها، وأشارت عليه بأن يحتاط لقومه من أن يصيبهم نصيب من شر تلك الصخرة اللاهوتية الغريبة! ولكن العباس كان قد حكى بها لصديقه (الوليد بن عتبة بن ربيعة) الذي بدوره أشاعها غير آبه بوصية العباس بكتمانها، فشاع الخبر كالنار في الهشيم، وتحولت إلى حكاية متداولة بين أهل مكة ونسائها على وجه الخصوص.

أبو جهل يدرك قواعد اللعبة
تناهى إلى مسمع إبي جهل موضوع الرؤيا المزعومة، فتوجه للعباس يقول له (... يا بني عبد المطلب، أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم، وقد زعمت عاتكة في رؤاها أنه قال : أنفروا في ثلاث، فسنتربص بكم هذه الثلاث، فإن يكن حقا ما تقول فسيكون، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شي، نكتب عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت في العرب...).
لقد أدرك أبو جهل المغزى البعيد للرؤية، رؤية عمة النبي الكريم (عاتكة) فهذا الرجل هو إبن أخيها محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، والقوم هم أعداؤه التقليديون (قريش) و الصخرة هي قوته أو سلاحه، والبعير هو بعيره، والنداء نذير لقريش بأنها سوف تكون في الغابرين. لقد تعامل إبو جهل مع (الرؤية) بمنطق المحلل السياسي البارع، لم تكن هناك رؤية بل حرب نفسية، و الغريب أن هذه الرؤية حصلت قبل أن يأتي (ضمضم) بخبر تصدي النبي الكريم لقافلة قريش!
لم يأبه أبو جهل للرؤية، ولذلك لم يكتف بتكذيبها، بل راح يتحدى، ويتحدى زعيم المطلبين العباس بن عبد المطلب، لم ينكر أو يستهجن أبو جهل (رؤيا) عمة النبي إيمانا منه بخرافية الحلم كحقيقة مستقبلية، تلعب دورا جوهريا في تأسيس التاريخ، فهذا الإعتقاد غير معقول من قبل إبي جهل، لأن عصره كان عصر إيمان وتصديق بهذه الرؤى، وكثيرا ما يصممون مواقفهم في الحياة، وربما تجاه قضايا كبيرة بناء على هذه الرؤى، فقد كان لها رواج فكري وروحي في مجتمع إبي جهل، حروب دامية سبّبت هذه الرؤى، حروب دامت زمنا مضنيا شاقا على الناس، وكان لها مفسرون ومؤولون، يحتلون مكانة راقية في هيكلة المجتمع أنذاك، بل الغريب أن لا يتلفت إبو جهل للرؤيا إلتفاتة جد ورعاية، فيما يقولون أن أبا لهب روعته الرؤيا وهي التي حجبت أشتراكه في الحرب!! / سير أعلام الذهبي 2 ص وإنما كذّب أبو جهل رؤيا (عاتكة) لأنه فعلا لا يؤمن بنبوة محمد، ولقناعة كاملة لديه أنها لعبة (مُطلَّبية) في سياق حرب نفسية ضد قريش لصالح محمد عليه الصلاة والسلام، فعشيرة محمد القريبة غير مستعدة للتخلي عنه فيما تعرضت حياته للخطر، بصرف النظر عن صدق نبوته أو عدم صدقها، وبصرف النظر عن إيمانهم بنبوته أو عدم إيمانهم.
أسطر كل هذا بناء على صحة الرواية، أي رواية رؤيا عاتكة، عمة النبي، هذه المرأة التي غابت أخبارها عنا بعد هذه الرؤيا الغيبية الغريبة، حتى يقول الذهبي (عاتكة بنت عبد المطلب، أسلمت وهاجرت، وهي صاحبة تلك الرؤيا في مهلك أهل بدر، وتلك الرؤيا ثبَّطت أخاها أبا لهب عن شهود بدر، ولم نسمع لها بذكر في غير هذه الرؤيا) / المصدر 2 ص 272 / وللعلم أن الرواية التي هي ادق تقول أن أبا لهب لم يحضر لأسباب أخرى، ربما نأتي على بيانها مستقبلا.

موقع (الرؤيا) الفني من جسم السرد
هذه (الرؤيا) ليست جزء من رواية إبن عباس الرئيسية التي تولَّت سرد حكاية المعركة، بل هي رواية قائمة برئسها، كسر بها إبن اسحق أو إبن هشام سردية إبن عباس الرئيسية منذ السطور الأولى، وتحولَّت إلى نقطة عبور فنية رائعة للدخول إلى تفاصيل السردية اللاحقة، بحيث لا تصلح تلك التفاصيل كـ(فقرات) طبيعية في أصل سردية إبن عباس دون هذه النقطة المفاجئة، أي دون هذه (الرؤيا)وفي ذات الموقع المذكور.
لقد صُدِمَ العباس بن عبد المطلب لشيوع الرؤية، وتخوَّف شر إبي جهل، وأراد أن يعالج الموضوع فانكر حدوث الرؤيا من الأ ساس، وفيما هو كذلك أستفتزت نساء بني عبد المطلب غيرة العباس، فقد كنّ شديدات الاحتجاج على العباس، ذلك إن أبا جهل نال منهن بسبب هذه الرؤية بشكل وآخر فكيف تقبل غيرته ذلك!! فما كان من العباس إلا أن قرر (وأيم الله لأتعرَّضن له، فإن عاد لأكفِينَّكنَّه) / المصدر ص 359 / وفي طريقه إلى المسجد كي يتعرض لأبي جهل حدث ما قلب المعادلة رأسا على عقب، حيث حضر رسول إبي سفيان (ضمضم / الأسم الغريب الذي يوحي بمهمته على درجة عالية من الدقة والمهارة /)، وهناك صرخ في الوادي (... يا معشر قريش، اللطيمة اللطيمة ــ الأبل التي تحمل البزّ والطِّيب ــ أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه...)/ ص 360 / وكان أبو جهل يسمع! وبعد هذه اللقطة يبدأ أبن اسحق بسرد بقية الفقرات، وفي اولها تجهيز الركبان نذيرا بالمعركة. وبالتالي، كان موقع (الرؤيا) من جسد الحكاية كلها، بمثابة نقطة وصل، نقطة عبور، لقد أورد ابن اسحق وصول (ضمضم) في سياق حديثه عن رؤيا عاتكة وملابسات موقف العباس بن عبد المطلب، ولم يورد هذا الوصول متصلا بأصل رواية إبن عباس المركزية، فقد أنهى بداية السرد بقوله (... فاستأجر ـ أي أبو سفيان ــ ضمضم بن عمرو الغفاري، فبعثه إلى مكة وأ مره أن يأ تي قريش فيستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه، فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة...) / ص 358 / ويسدل الستار على المشهد ليبدا بقصة الرؤيا، وينهيها بوصول (ضمضم)، وبعد ذلك ينتقل إلى بقية ملاحق الرواية العباسية!! أقصد رواية ابن اسحق عن إبن عباس.
هناك إذن عمل معماري مخدوم، مخدوم فنيا، عمل معماري تتجلى فيه عبقرية تصميم الحدث، كيفية الربط بين مجموعة أجزاء ذات أصول متعددة ودمجها في إطار متجانس، كي تتجلى صورة مقنعة، بل صورة تدعو إلى متابعتها، سواء قراءة أو سماعا.
من حقنا أن نسأل ونقول لماذا لم يؤجل إبن إسحق خبر الرؤية إلى ما بعد وصول (ضمضم)؟ ولماذا جعل إبن اسحق خبر وصول (ضمضم) إلى مكة جزء لاحقا برواية الرؤيا؟ فيما هي ليست جزء منها أساسا، بل جزء من بنيان السرد العباسي، أي السرد المنسوب لإبن عباس.
ونسأل ببراءة وموضوعية، ترى هذه القدرة التي يتمتع بها إبن أسحق على نحت السرد الفني المحكم الحلقات، المؤَّسًّس من أصول وروافد متعددة، في سياق وحدة فنية بارعة... هذه القدرة القصصية هل هي بريئة تماما في علاقتها بما يروي، وبما يحكي؟

سند الرؤيا الأولى
يقول إبن اسحق (... فأخبرني منْ لا أتهم عن عكرمة عن ابن عباس، ويزيد بن رومان عن عروة بن الزبير، قالا : وقد رأت عاتكة...) / ص 358 /.
والسند مرسل، فان مصدر طريق إبن أسحق إلى عكرمة عن إبن عباس مجهول بـ (من) أخبره، فهذا الذي لا يتهمه إبن إسحق ربما نحن نتهمه، وربما غيرنا يتهمه. والسند الثاني يصل عند عروة بن الزبير، وهو تابعي...
لقد جاءت هذه الرؤية من طرق متعددة كما يقول أهل الحديث، فقد أوردها الحاكم النيسابوري في الجزء الثالث ص 19، إلا أن سنده ضعيف، ورواه الطبراني بإسنادين أحدهما مرسل، والآخر مرفوع من حديث مصعب بن عبد الله... كما في مجمع الهيثمي 6 / 732، وله سند أخر عن إبن عباس لكنه ضعيف هو الأخر، كما أورده إبن مندة بسنده عن عاتكة بنت عبد المطلب وسنده ضعيف كما قال إبن حجر في كتابه الموسوعي الجميل الإصابة في معرفة الصحابة الجزء 4 صفحة 347!!
إذن نحن بين يدي سند يترواح في مكانه، لا يقوى على النهوض كدليل قوي على حصول هذه الرؤيا الميتافيزية الغريبة، تلك الرؤيا التي أرعبت قريش كما يقول موسى بن عقبة في مغازيه (... ففزعوا، وأشفقوا من رؤيا عاتكة، ونفورا على كل صعب وذلول) / نقلا عن مغازي الذهبي ص 104 / فيما كانت الرؤيا حافزا للقريش لتجنيد قواها، كل قواها لخوض معركة وجود مع محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم!!!

العباس بن عبد المطلب
كان العباس بن عبد المطلب بطل الرواية، رواية الرؤيا، كان المؤتمن عليها، وكان راس الحربة في مواجهة إبي جهل، وكان حامي حمى النساء الهاشميات، وكان كل ذلك تمهيدا لتاريخ مشتعل بالنبل والبطولة للعباس، فقد أفادت بعض الاخبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحذر من إسر العباس أ و قتله لانه مكرَه على القتال، ولم يؤسر أسرا عاديا، فقد اسره في الحقيقة ملك عظيم، ولم ينم رسول الله ليلته حتى فك أسر العباس... لا أريد أن أطيل في هذه النقطة، وسوف اجليها في فرصة أخرى بقوة الله سبحانه وتعالى.

يتبع
[email protected]