مدخل الفكرة
تتواصل صيحات المخلصين والمحبين للحقيقة لإعادة كتابة السيرة النبوية، وهو مشروع ليس حيويا، بل مشروع مصيري في تصوري، ذلك أن سيرة المصطفى وكما وردت في مصدرها الأساسي، أي سيرة إبن اسحق، تحولت إلى مرتع للتزود بقيم الإرهاب والقتل والحذف والتكفير والتدمير، كما أنها تحولت إلى مصدر لأعداء محمد لتسطير التهم بحق
نموذج من الإضطراب الخبري هناك نماذج مزعجة من الإضطراب الخبري مبثوثة في ثنايا الأخبار التي وصلتنا من الرواة في موضوعة المعركة، وهذه النماذج المضطربة هي الاخرى تدعونا إلى مراجعة جادة فيما جاء عن معركة بدر، أضع هنا بين يدي القاري نموذجا سريعا. |
يقولون : إن إعادة كتابة مشروع السيرة المطهرة يحتاج إلى مادة تاريخية نعمل عليها، وهذا من البديهيات بطبيعة الحال، ولكن بعض هؤلاء يريدون البقاء على هذه المادة كما هي، وجل ما يريدون العمل به هو تصنيف وتبويب وتقديم وتأخير، حيث أقروا ضمنا بأن هذه المادة يجب أن تبقى من حيث الجوهر بلا نقد وبلا تغيير، وبلا تحقيق! ومنهم من يرى أن نبقي حتى على المستويات الخرافية والخيالية في السيرة، بحجة أن ليس كل ما لا يستسيغة عقل ينبغي الخلاص منه، أو بحجة عدم ضرر ذلك ما دام ينطوي على نزعة من شانها التشجيع على الإلتزام، ومن شانها شحن العاطفة، ومن شانها شد المؤمن أكثر إلى النبوة الخاتمة، وربما أعود إلى هذه النقطة بالذات لإستجلائها بعون الله.
إن إعادة كتابة السيرة تعني في المقام الأ ول تهذيب مادتها كما جاءت في سيرة إبن اسحق ــ وهي الأم ـ وما جاء في المصا در الاخرى، تهذيب المادة التاريخية ونقدها وتصفيتها هي المدخل الحقيقي والعلمي والأخلاقي للتعامل مع مشروع إعادة كتابة السيرة، إن بعض الإسلاميين المهوسين بمشروع الإسلام السياسي يريدون سيرة برغماتية، أي سيرة تخدم مصالحهم السياسية والحركية، فيما الحقيقة تريد سيرة تستند إلى الحقيقة ذاتها، وهناك من يريد البقاء على هذه المادة، أي المادة الأولية بعيدا عن الممارسة النقدية عليها، لأن في ذلك مكاسب مادية ووجاهية، فإن هناك سوقا رائجة للخرافة والمبالغة والتهويل، وهناك سوق رائجة لأخبار الذبح والقتل والتدمير، وهؤلاء يتوسلون بهذه المادة لإرضاء هذه السوق الخطرة بغية جني المزيد من الكسب المادي والوجاهي القبيح.
هنا وبعد هذه المقدمة البسيطة أسجل بعضا من هذه الروايات، ألتي أعدها كارثة بحق الضمير الإنساني، بل كارثة بحق الرب الذي بعث محمدا رحمة للعالمين.
رواية (حرب المياه)!
تقول سيرة إبن اسحق أن أحد الصحابة وهو (الحُباب من المنذر الجموح) كان قد أقترح على الرسول خطة في حربه مع قريش، تلك الخطة أستطيع أن أسميها بـ (حرب المياه)، وفحوى الخطة ان (تميت خصمك المحارب عطشا)!
لقد كان اقتراح (الحُباب) هذا أن تردم كل مصادر المياه التي تفصل بين المسلمين وقريش، وكانا قد أقتربا من بعضهما، فيما يبني المسلمون حوضا خاصا بهم، وبذلك كما يقول الحباب للرسول الكريم (ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون)!
لقد قرانا ونقرأ أن من وصايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحرب لأصحابه أن لا يقتلوا شيخا ولا عجوزا ولا طفلا ولا يحرقوا شجرا ولا يردموا بئرا، فكيف يلتئم هذا مع ذاك؟
هذه القسوة لا يمكن أن يتصف بها رسول الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم، ولذا أني أشك في هذه الرواية وكل ما يترتب عليها أو يُبنى عليها حتى ولو كان السند صحيحا، فإن صحة السند كفكرة مشوبة بأكثر من مرتقب ومرتقب، ومن حمد الله تعالى أن سند الرواية ضعيف، فقد جاء كما يلي [ قال إبن أسحق : فَحُدِّثتُ عن رجال من بني سلمة، أنهم ذكروا : أن الحُباب بن المنذر الجموح.... (وساق الخبر) ]/ السيرة ص 366 / فالراوية منقطعة لمجهولية هؤلاء الرجال كما هو و اضح، ولكن الواقدي في مغازية يورده مرة مجردا ومرة موصولا بسند هو (حدثنا محمد قال : حدثنا الواقدي قال : فحدثني أبن أبي حبيبة،عن داود بن الحصين، عن عِكرمة، عن أبن عباس قال : نزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : الرأي ما أشار به الحُباب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا حُباب : أشرت بالرأي! فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل ذلك) / المصدر 1 / ص 54.الواقدي هنا كعادتة يزيد على رواية إبن اسحق، وهو ما يجعلني اشك أنه يختلق ما من شأنه أن يستقل به، كي يبين دوره في كتابة السيرة، فلم يشر إبن أسحق على مطابقة الوحي لأقتراح الحُباب، ذلك الأقتراح القاسي الجاهلي الظالم، فيما كحَّل الواقدي ذلك برضا الوحي! على أن سند الواقدي واه جدا، فقد حكم الرجالي المعروف إبن المديني على أن رواية داود بن الحصين أبو سليمان المدني عن عكرمة (منكر) / مغني الذهبي 1 / رقم 1978 / وقال أبو زرعة الرازي (ليّن)، وقال سفيان بن عيينة (كنا نتقي حديثه) / المصدر والرقم /. وفي عكرمة حديث طويل، ثم هذا (أبو حبيبة)الذي هو المصدر المباشر للواقدي في الرواية المذكورة، جاءت فيه طعون قوية (قال أبن معين : ليس بشي... وقال أبو حاتم : شيخ ليس بالقوي يكتب حديثه ولا يحتج به... وقال البخاري : منكر الحديث، وقال الدار قطني : متروك، وقال النسائي : ضعيف...) / تهذيب التهذيب 1 / رقم 180 / فضلا عن أن أصل الرواية مرسلة لأن إبن عباس لم يحضر المعركة، ولا ندري موقفه وطريقته بالرواية والنقل! فما الذي بقى بسند الواقدي هذا؟
وفي تصوري أن مثل هذا الاقتراح لا قيمة له لسبب بسيط، ذلك أن القوافل العربية كانت لا تبرح مكانها إلاّ وهي تحمل الكثير من المياه، خوفا من العطش المفاجئ، وجدب الصحراء، والضياع في دروبها غير المأمونة، فكيف والحال قافلة حرب؟ وفي طريق طويلة؟ ثم هل عدمت قريش قدرة حفر أبار في ذات الوقت وفي ذات المكان؟
هذه رواية خرافية سمجة.
تقول رواية إبن عباس (فلما نزل الناس أقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم حكيم بن حزام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوهم. فما شرب منه رجل يومئذ إلا قُتل، إلا ما كان من حكيم بن حزام فأنه لم يُقتَل...) / ص 367 /.
ومهما كان رايي في سند إبن عباس الذي تشوبه الكثير من التساؤلات، فإن المتن لا يفيد أبدا أن هناك حرب مياه إذا صح التعبير، فالمسلمون الذين قتلوا هؤلاء القريشيين الذين وردوا حوض ـ إن صحّ الخبر ــ رسول الله لم يقتلوهم كي يمنعوهم من شرب الماء، بل جاء ذلك في سياق القتال لا أكثر ولا أقل، وشي غريب أن تسكت الرواية عن هؤلاء الذين قتلوا وقُتِلوا في حرب المياه هذه! خاصة وإن إبن اسحق كان قد عقد فصلا لقتلى المشركين بالأسماء، فهل من المعقول أن لا يشير إلى من قُتِل في حرب المياه هذه؟!
تقول رواية ابن اسحق عن إبن عباس (وقد خرج الأسود بن عبد الاسد المخزومي، وكان رجلا شرسا سيئ الخلق، فقال : أعاهد الله لأشربن من حوضهم، أو لأهدمنَّه،أو لأموتنَّ دونه، فلما خرج، خرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فلما التقيا ضربه حمزة فأطنَّ قدمه بنصف ساقه، وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوض حتى أقتحم فيه، يريد أن يبر يمينه، وأتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض) / السيرة 1 / ص 369 /
فهذا الرجل كان في موقع التحدي وليس لأنه لا يملك ماء يشربه، فليس من المعقول أن قريش تتجهز بالسلاح والجمال والسيوف والدفوف والجزور والخمور ولم تتجهز بالماء، تلك خرافة، ولكن الرجل يريد أن يتحدى، وربما كان يريد أن يهدم الحوض كي يحرج المسلمين ، أقول ذلك إن صح هذا الجزء من رواية إبن عباس التي سبق أن وضعنا أكثر من علامة إستفهام عنها، على أن الرواية تنطوي على شي من (الفنتازية) إن صح التعبير، ذلك أن هذا الرجل السيئ الخلق، صمم أن يزحف ليلقي نفسه بالحوض كي يبر بيمنه!!!
لا يستبعد أن ا لحُباب بن المنذر قد اقترح على النبي الكريم هذا الأقتراح، فهو رجل حرب معروف، ويتسم بالقسوة والصلابة بل والفردية، فهو صاحب مشروع (منا أمير ومنكم أمير)، وهو الذي طالب الأنصار في مؤتمر السقيفة بأن يجلوا من نازعهم خلافة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من البلاد بحد السيف، مما دفع عمر أن يقول له (إذا يقتلك الله) فأجابه (بل إياك يقتل)، وكان قد شهر سيفه يقاتل داخل السقيفة كما يقولون، حتى سميت بأنها (فلتة كفلتات الجاهلية) / راجع الطبري 4 ص 40، 41، 42 /.
لا أستبعد أن رجلا مثل هذا يقترح حرب مياه على الخصم، ولكن هيهات أن يقبل ذلك نبي هو نبي الرحمة دعوة وواقعا.
شهادة مجانية!
جاء في سيرة إبن أسحق (وقال إبن إسحاق : وحدَّثني عاصم بن عمر بن قتادة : أن عوف بن الحارث، وهو إبن عفراء قال : يا رسول الله ما يُضحك الرب من عبده؟ قال : غَمْسَه يده في العدو حاسرا، فنزع درعاً كانت عليه، فقذفها، ثم أخذ سيفه فقاتل ا لقوم حتى قُتِل) / ا لمصدر ص 370 /
مرة أخرى نلتقي بما لا ينسجم مع عقل، ولا هو من بديهيات القرآن والإسلام، فأن من التعاليم المعروفة في هذا الدين الاستعداد للقتال بكل ما يمكن أن يؤتّى من قوة وألة، والقرأن شاهد صريح على ذلك، وبالتالي، من ا لمستحيل أن يصدر مثل هذ االتوجيه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا النوع من الجهاد أو القتال إنتحاري، ولا معنى له على الإطلاق، من المنطق والدين أن يقاتل المسلم في سبيل الحق والحرية و القيم الخيرة، وأن يتمنى من صميم روحه الشهادة على هذه الطريق الإنسانية الخيرة،ولكن من غير المنطقي أن يتهاون مع الحرب بحجة أن يظفر بهذه الشهادة.
هذه الروايات وغيرها تغذي شباب الأمة بفكر مسموم، فكر عدمي، فكر إنتحاري، فكر ظلامي، وقد تفنن رجال الدين أو بعض رجال الدين، وفقهاء الإ رهاب بالاستفادة من مثل هذه الروايات الباطلة القاتلة، لخلق جيل أو أجيال قاسية مع ذاتها، حاقدة على الغير، لا تعرف سوى لغة الحذف والقتل والتدمير.
الواقع : من حسن الحظ أن الرواية مرسلة، فأن مصدر إبن اسحق هو عاصم بن عمر بن قتادة، هو وإن وثقه علماء الرجال، ولكن الرجل مات سنة 120 للهجرة، وبالتالي، فروايته مرسلة.
النبي يهجو موتى عشيرته
تقول الرواية (قال إبن إسحق : وحدّثني بعض أهل العلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ـ يخاطب موتى قريش بعد أن وضعوا في بئر القليب ــ يا أهل القُليب، بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم،كذَّبتوني وصدَّفني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس...) / المصدر ص 377 /
الرواية مرسلة، فهي ضعيفة، وهي لا تمت لأخلاق البنوة الكريمة.
اكتفي بهذا القدر، علي أن اتطرق لنماذج أخرى، ولكن في سياق كلامي المتبقي عن معركة بدر، والهدف البعيد هو تنزيه سيرة النبي الكريم مما دخلها من غث وزخرف وتهاويل وأكاذيب، ومن هو أحق بهذا الجهد دونه عليه الصلاة والسلام.
إن إعادة كتابة سيرة المصطفى تتطلب أول ما تتطلب هو تنقية هذه المادة، والله الموفق للصواب.
[email protected]
التعليقات