2-4

يكتب محمد المويلحي في العقد الأول من القرن العشرين، مستندا إلى محاولة إحياء فن المقامة ذي الأصول التراثية العريقة في الثقافة العربية، كتابا عنوانه(حديث عيسى بن هشام أو فترة من الزمن) ولم يفتأ المؤلف عن القول؛ (وبعد فهذا الحديث ndash; حديث عيسى بن هشام_ وإن كان في نفسه موضوعا على نسق التخييل والتصوير فهو حقيقة متبرجة في ثوب خيال، لا أنه خيال مسبوك في قالب الحقيقة، حاولنا أن نشرح به أخلاق أهل العصر وأطوارهم، وأن نصف ما عليه الناس في مختلف طبقاتهم من النقائص التي يتعين اجتنابها، والفضائل التي يجب التزامها)
المويلحي في مقامته يعمد إلى المناورة على عنصر الخطاطة السردية المتمثل بالفاعل، فيسنده إلى شخصية وهمية، هو (عيسى بن هشام) وفي هذا يكون المؤلف وفيا لتقاليد فن المقامة العربية، المهم هنا أن الموضوع يتداخل بمقايسة معرفية مع المدلول الزماني، إذ يلتقي بطل المقامة ابن هشام بدفين يخرج من قبره، ليبدأ حوار (القطيعة المعرفية) بين رجل من زمان منصرم، له مفاهيمه وتقاليده ومنظومته المعرفية والنسقية، ورجل حيّ آخر، يعمل بصناعة الأقلام (الكتابة) لديه أنساقه وقيمه ووعيه الخاص بعصره.

الهوية الزمنية
تتقاطع معلومات الدفين مع ابن هشام في معرفة العناوين على سبيل المثال. إذ يشير إلى أن البيوت تعرف بأسماء أصحابها، في حين أن الرجل (الآني) المعاصر يعرف البيوت من أسماء الشوارع وأرقام الأزقة. والواقع أن الرجل المعاصر يقدم العديد من التنازلات للدفين، إذ لا يتوان عن منحه رداء كان يلبسه، بعد أن يدعوه في قرارة نفسه سلبا ولصوصية.
قال يونس بن ميسرة؛(لا يأتي علينا زمان إلا بكينا منه، ولا يتولى عنا زمان إلا بكينا عليه)، وكان الأبشيهي ت 850 هجري قد أفرد بابا خاصا فيه ثلاثة فصول، في شكوى الزمان وانقلابه بأهله، والصبر على المكاره، والتسلي عن نوائب الدهر، ومثله الكثير في التراث العربي، والنظرة هذه لا تعد ضمن الوقوع في شراك النكوصية، بقدر ما تقوم على المعرفة والعلم بالشيء. فالمستقبل مجهول لا يمكن التكهن أو التحكم بنتائجه.
المختلف في حديث عيسى بن هشام، يقوم على التضاد المعرفي وليس التبجيل للماضي، فالأخلاق والأعراف وردود الفعل ماهي إلا أنساق معرفية لها رموزها وإشاراتها المتنوعة، عبر عنصرين فاعلين، الأول وهو (الدفين) بمفاهيمه القديمة التبجيلية النخبوية، المستندة إلى الإفراط في نبذ الآخر، واحتقار أية معرفة لم يبلغها. والثاني (ابن هشام) برؤياه الجديدة وقيمة الاجتماعية المستندة إلى قوة القانون، وتساوي جميع الأفراد أمامه. فها هو المكاري يصيح في وجه الباشا (الدفين)، (ومن أنت ومن غيرك، ونحن في زمن الحرية لا فرق بين الصغير والكبير، ولا تفاوت بين المكاري وبين الأمير).
وجهة الصراع التي يحركها المويلحي، يضعها في ثلاث ركائز بنائية شديدة التلميح. الباشا (الدفين) بمنظومة قيمه التي أضحت من الماضي، حتى أن مدار التداول صار يجعل منها غريبة، لينجم عنها سوى التندر والسخرية. والفلاح الذي تعوزه المعرفة الدقيقة والقدرة على الحوار أو استيعاب الآخر، على الرغم من بلوغ مسامعه، أفكارا عن الحرية والمساواة وسلطة القانون. أما ابن هشام فيمثل همزة الوصل المعرفي، وشارح المفاهيم نظرا للقطيعة القائمة بين النخبة الماضية والعامة قليلة المعرفة. لكن هذا الشارح لا يتوان عن إسداء نصحه، حول أهمية عقد هدنة من أجل الوقوف على معالجة للوضع الذي أفرزته الحالة المعقدة،فها هو يقول للباشا؛ (لا بد لك من التسليم والاحتمال على كل حال حتى نخلص من هذه النازلة بسلام)إنه الاختلاف في الزوايا والمواقع من الحدث، وعلى هذا نجد المفهوم الواحد وقد تقمصته المزيد من التأويلات والمعاني، فالزمن هنا يكون لدى الباشا الدفين بمعنى الغربة، فيما يكون لدى ابن هشام فاعلا، أما لدى المكاري فهو يمثل معنى السبات.

من هوية الفرد إلى هوية الجماعة
في أية زاوية يمكن البحث في دور الثقافة، هل بوصفها فاعلا أكبر، أم في التوقف عندها بوصفها رجع صدى للقيم والمعتقدات والأعراف السائدة؟لكن من المؤكد أن الوشيجة القوية والراسخة، تبقى حاضرة بين منظومة القيم (المؤسسة الاجتماعية) والبنية الثقافية، والإشكال الراهن في مجمل الطروحات التي تحاول نظرية الثقافة تقديمها، تتمثل في محاولة تجاوز منظومة القيم والمعتقدات، والتركيز على أحادية النظرة حول الثابت والمتحول، والإبقاء على الفصل بين الحقائق الثقافية والقيم الاجتماعية.
تتبدى مجموعة من الرؤى والتصورات حول دور وفاعلية نظرية الثقافية، باعتبار أن البعض يحاول حصرها في النتاج الفكري، وآخرون يعمدون إلى تركيزها في التحديث وتوسيع التقانة، ويسعى الأنثروبولوجيون إلى حصرها في الإبداع الإنساني، ومن خلا ل التطلع نحو تطبيق مقولات نظرية الثقافة على الواقع العربي، نجد تمزقا حادا في الذات العربية وترصد المزيد من حالات الاغتراب في الهوية وإشكالية في وسائل التعبير. وفي ظل هذا لم تعدم البعض من النخب العربية من التطلع نحو استعارة منظومتها الفكرية عن الآخر، لتعلن عن أهمية الانخراط في استعارة الخطاب الثقافي للآخر، باعتبار محاولة الوعي بالتحولات التاريخية التي شهدها العالم، على صعيد تمايز ملامح القوة الباطشة، بين الآخر الذي سعى نحو إنتاج سرديته الكبرى حول الإنسانية والحضارة والتحديث، وصولا إلى الراهن الذي راح يتم الرهان عليه بناء على حرب المعلومات وثورة الاتصالات والعولمة. إنه سؤال الهوية الذي راح يلح على التركيز في (من أنا؟من الآخر؟ما العلاقة معه؟ماذا يميزني عنه؟)