يخطئ كثيرا كل من يعتقد بأن التيار الليبرالي في الوطن العربي، هو مجرد طابور خامس للولايات المتحدة الأمريكية أو لغيرها من القوى الغربية، على الرغم من إمكانية وجود علاقات قوية لبعض قادة ونشطاء هذا التيار مع واشنطن أو سواها من العواصم الدولية، فالليبرالية باعتبارها مجموعة قيم ومبادئ فكرية وسياسية إنسانية، هي في المقام الأول عقيدة بشرية تتجاوز حدود التاريخ والجغرافيا، تماما كما هو شأن عقائد أخرى، كالديمقراطية والاشتراكية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان.
واتهام التيار الليبرالي العربي بالعمالة للولايات المتحدة أو سواها، ليس إلا نتاجا لولع العقل العربي عامة بإلصاق تهم التخوين والعمالة بالآخر المختلف عنه، فالإخوان المسلمين كانوا برأي القوميين واليساريين العرب مجرد صنيعة للاستعمار البريطاني، والشيوعيون العرب كانوا برأي سواهم عملاء للكي جي بي وإذا ما أمطرت في موسكو قيل أنهم وضعوا المظلات في مدنهم وقراهم العربية الجافة، أما القوميون العرب فليسوا سوى ردة فعل عمياء على الشوفينيات التركية والايطالية والألمانية، ولاحقا مخبرين لدى التنظيمات الناصرية والبعثية.

إن التيار الليبرالي العربي هو تعبير أصيل برأيي عن إحدى الحاجات الماسة التي تفتقدها المجتمعات العربية، وهو مشروع يرى في الحرية والديمقراطية ودحر الأنظمة الاستبدادية أولوية يمكن أن تقود إلى تحقيق بقية الحاجات الأساسية التي تفتقدها المجتمعات العربية أيضا، والتي تتخذها تيارات أخرى أولويات، كما هو أمر التحرير والوحدة لدى القوميين العرب، أو العدالة الاجتماعية لدى اليسار، أو تطبيق الشريعة الإسلامية لدى الإسلاميين.

وكأحد المؤمنين بالقيم الليبرالية الكونية، ممثلة أساسا في الديمقراطية والحريات العامة وحقوق الإنسان والاقتصاد الحر الحافظ والمحفز للمبادرة الفردية، لا أجد أي تناقض بين مرجعيتي الليبرالية هذه، وإيماني العميق بأن إنشاء فضاء ليبرالي في العالم العربي وحده الكفيل بضمان تدين إسلامي حقيقي لدى الناس خال من كل رياء أو نفاق أو طمع، يعمل على نفع الناس لا التآمر لتفجير أجسادهم البريئة، وكذلك تحقيق التواصل بين مختلف البلدان العربية بما يحول مشاريع الوحدة إلى مصالح مادية، و الشعارات الكلامية إلى حقائق عملية على الأرض، ناهيك عن إزالة معوقات استكمال عمليات تحرير الأرض المتأخرة من خلال تعرية واقع المحتلين وكشف معادنهم المشوهة للعالم.

إن الاتهامات التي تكال إلى الليبراليين العرب، قدامى كانوا أم جددا، ليست في اعتقادي إلا تجسيدا لاستمرارية أزمة العقل العربي، من حيث جنوح تجلياته المتعددة باستمرار إلى الشمولية، كما هو جنوح المنظرين العرب على اختلاف مشاربهم إلى تقديم أنفسهم للأمة أنبياء لديهم مقدسات، تحل اللعنة على كل من يشكك فيها، ويحرم كل من لا يؤمن بها من نياشين المقاومة والبطولة والوطنية، وبالمقابل فإنه سيكون مؤشرا على تعافي هذا العقل إيمانه بأن تجلياته جميعا نسبية، وبأن الليبرالي كما اليساري والقومي والإسلامي، صاحب وجهة نظر من حقه أن يطرحها على الجمهور دون أن يتهمه أحد بالخيانة، أو يرهبه بقطع الرأس أو اللسان.
لقد أهدرت أمة العرب طيلة الخمسين عاما الماضية ملايين الفرص لإصلاح أوضاعها، وكان السبب الرئيسي في ذلك، أن صوتا واحدا كان يجب أن يسمع، وأن رئيسا واحدا كان يجب أن يطاع، وأن حزبا واحدا كان يملك الحقيقة السياسية والطهارة الفكرية والنقاء الثوري، أما البقية فإما صنائع للاستعمار أو أذنابا وأدوات تحركها القوى الأجنبية، ولعله من أكبر دواعي الأسف أن الوضع الكارثي الذي وصلنا إليه، والسواد الحالك الذي يحيط بنا من كل حدب، والفشل الصارخ الذي يجلل مسيرتنا البائسة على كافة الأصعدة، كل ذلك لم يكن كافيا ليقنعنا بأن الطريق الشمولي الأحادي لم يكن صائبا، وبأنه من الأصلح أن تستوعبنا جميعا أرضنا، وبأن نحتكم في اختلافاتنا البشرية إلى صناديق الاقتراع، وبأن لا يزايد أحدنا على الآخر في حب الوطن أو الدين أو القومية.
إن مجرد الاستماع إلى الساسة والمنظرين العرب كل على حدة، سيقود بلا شك إلى اكتشاف الحقيقة، فالليبراليون العرب لا يمكن أن يكونوا من أنفسهم ليبراليين وعربا، يؤمنون بحق شعوبهم في التمتع بالحرية والديمقراطية وبناء علاقات سلمية وودية مع الغرب والشرق على السواء، إنما هم في نظر القوميين أو الإسلاميين أو بعض اليساريين عملاء جرى تدريبهم على الكلام في دهاليز quot;سي آي إيهquot;، وإنه لمؤسف أن نعوتا مشابهة يمكن أن تقال في منتديات الليبراليين عن سواهم، من قبيل quot;أيتام صدامquot; وquot;عملاء إيرانquot; وquot;أذيال كاسترو وماو وايميل سونغquot;، والبين عندي أنه من الطبيعي أن تنتج أمة العرب ليبراليين وقوميين وإسلاميين ويساريين، لأنه لا أمة في الدنيا خالية من انقسامات، وما اختلاف أمة عن أخرى إلا في كيفية إدارة هذه الإنقسامات، بين دعاة تعايش وأدعياء عصمة وألوهية.
وإن الناظر في تاريخ العرب الحديث والمعاصر، سيستنتج بلا ريب أن للليبراليين العرب أفضال كثيرة على شعوبهم وبلدانهم، فهم على سبيل المثال من قاد معارك التحرير ضد الاستعمارين الفرنسي والأنجليزي، وهم من قاد تجارب النهضة والإصلاح الأولى في أكثر من قطر عربي، وهم من كشف للأمة حقيقة التخلف الحضاري الذي أضحت عليه، وحاول الأخذ بيدها للالتحاق بركب الأمم الناهضة، دون أن يكون لديهم أية عقدة في التعامل مع ما عرف بثوابت وخصائص الهوية الدينية والقومية.
لقد كان سعد زغلول باشا ليبراليا، وكان النحاس باشا ليبراليا، تماما كما هو شأن مصطفى كامل ورفاعة الطهطاوي وطه حسين والشيخ علي عبد الرازق وعباس محمود العقاد وغيرهم من رموز عصر النهضة المصرية، وفي تونس كان بورقيبة ليبراليا وخير الدين باشا ليبراليا، و كذا الشأن بالنسبة لمحمد علي الحامي والطاهر الحداد وفرحات حشاد وصالح بن يوسف ومحمود الماطري وعلي البلهوان وسواهم من رموز الحركة الوطنية التونسية التي خاضت غمار الكفاح ضد الاحتلال وبناء الدولة المستقلة.
وفي المغرب ولبنان وسوريا والجزائر والعراق، كان غالبية رجال وقادة الحركات الوطنية التي حررت البلاد من المستعمر الأجنبي، من الليبراليين الذين خططوا لإقامة دول مستقلة معتزة من جانب بهويتها القومية العربية والدينية الإسلامية، ومستندة من جانب آخر على قاعدة البنيان السياسي الحديث كما تجلى في الغرب، من حيث التأكيد على علوية الدساتير والفصل بين السلطات وضمان حقوق الإنسان والحريات، هذا قبل أن تتفاجأ هذه النخب بزحف العسكر من الثكنات، وتسمية الانقلابات العسكرية بالثورات، وظهور أنبياء جدد بإسم القومية والوحدة والإشتراكية، أجازوا مصادرة كل شيء بإسم الحفاظ على المصالح القومية والدينية والطبقية، حتى عاد ضعاف العرب ndash; وهم الغالبية- يترحمون على أيام المستعمر من شدة ما فعل بهم المستبد من أهل الدم والعشيرة.
إن اختلاف الليبراليين العرب، مع غيرهم من تيارات الأمة، لم يكن اختلافا على الثوابت، والقول بخلاف ذلك ليس سوى افتئاتا كبيرا يراد به مواصلة السير في المناهج الأحادية البائسة إياها، إنما كل الاختلاف منصب على الآليات الكفيلة بتحقيق المصالح الوطنية والقومية العليا، فالنظرة الليبرالية العربية إلى القضية الفلسطينية في تميزها عن غيرها على سبيل المثال، ليس مردها الإيمان أو عدم الإيمان بالحق الفلسطيني، فالحق الفلسطيني ثابت لا محل نقاش، إنما الاختلاف حول الكيفية المثلى لإحقاق هذا الحق، وكذا الحال بالنسبة للقضية العراقية، فما هو مصدر اختلاف بين الليبراليين العرب وغيرهم، لا يدور حول حق العراقيين في العيش في دولة مستقلة لا وجود لجندي محتل على أرضها، إنما الخلاف على كيفية بناء هذه الدولة، على أن تكون دولة ديمقراطية تعددية، لا دولة بعثية أو زرقاوية مدلهمة.
ولعل أكبر ما يصيب الأمم، أن يحرمها أبناؤها من ثروة تعدد الآراء، ولعل أهم ما يميز الأمم المتحضرة فسحها المجال أمام ظهور الآراء المتعددة في أحلك الظروف والأزمات، وإن أمة العرب أحوج ما يكون إلى أن يتسع مجالها وعقلها لكل الأفكار والتوجهات بعيدا عن التخوين والمزايدات، وبعيدا عن الأوهام والعنتريات، وأن تتبنى تياراتها الفكرية والسياسية جميعا، قيما جامعة هي في أمس الحاجة إليها، وفي مقدمتها النسبية، فعندما يدرك الإنسان انه ليس بمقدوره امتلاك الحقيقة، سيعذر أخاه الإنسان وسيجد له متسعا للعيش إلى جانبه والقبول به والتنافس النزيه معه، بما يحقق المصلحة المشتركة بينهما.

كاتب تونسي، مدير مركز دعم الديمقراطية في العالم العربي-لاهاي