لا زالت محاكمة جلاد العراق المخلوع صدام التكريتي تثير التساؤلات حول الاستقلالية التامة المزعومة للقضاء بشكل عام وفي العراق بشكل خاص. حيث ناقشتُ في مقالات سابقة الناحية النظرية لهذه الاستقلالية وذكرت بأن التجربة الديمقراطية قامت في الغرب على علاقة توازن وانسجام بين السلطات وليس على فصلها كما استنتجها بعض القانويين المولعين بالقراءة الحَرفية والمكتَـبية عند تبنيهم لمبدأ فصل السلطات في العراق. وقد ابتعدوا بذلك عن الواقعية التي هي أساس هذا المبدأ الذي صاغه المفكر الفرنسي مونتسكيو، في القرن الثامن عشر، بناء على ملاحظته لواقع عمل النظام السياسي في انكلترا (انظر المرجع المعروف في الفكر السياسي: جان توشار وآخرون: تاريخ الفكر السياسي، ترجمة د. علي مقلد، ط2، بيروت، الدار العالمية، 1983، ص 311-314) .

وقد اهتمت النظم الديمقراطية بتحقيق استقلال القضاة في اتخاذ قرارارتهم من خلال تهيئة الوسائل الضرورية لذلك من تأهيل مهني وبيئة اجتماعية/سياسية وثقافة تكرست عبر السنين والقرون ليكتسب القاضي تدريجياً هذه القدرة على اعطاء القرار بشكل مستقل. ومع ذلك، لا زالت هذه الديمقراطيات تراقب عمل القضاء وتنظر اليه باستمرار بعين النقد quot;الموضوعيquot; لضمان حسن سيره وتهاجم قراراته من وقت لآخر. كذلك اتخذت هذه البلدان الوسائل الدستورية والقانونية التي من شانها منع طغيان القضاء على السلطتين التشريعية والتنفيذية.

أما في العراق، فقد شهدنا، منذ سقوط نظام الطغيان الفردي تطبيقياً حرفياً لهذا المبدأ وتم الترويج لاستقلالية القضاء بشكل لا يتناسب مع الفهم الواقعي لعمل الأنظمة الديمقراطية ولا مع حقيقة الواقع العراقي حيث ان قضاة اليوم، مع احترامنا لهم، بشر عاشوا في ظل نظام استفرد بالسلطات كلها وترعرع هؤلاء القضاة في بيئة ثقافة الاستبداد والعنف المنظم (من قبل السلطة) ونشأت أوضاع اجتماعية وثقافية لا تمت الى القضاء الحقيقي والمستقل بصلة. حتى وان كنّا نفتخر بالبعض منهم لأنهم قاوموا تسخير القضاء في خدمة عبثية النظام الاستبدادي الفردي، فان مقاومتهم محدودة بالضرورة وهي لا تعني أن القضاة مؤهلون للقضاء باستقلالية ودون وسائل رقابة وبدون المرور بمرحلة أو مراحل انتقالية. ثم ما هي مشروعية ومعقولية منح السلطة القضائية، بعد عقود الاستبداد وانصهار القضاء، وضعاً قانونياً لا تملكه حتى مثيلتها في فرنسا مثلاً. حيث سهر الدستوريون والمشرعون فيها على توفير مستلزمات القرار المستقل للقضاء وفي نفس الوقت عملوا على منع السلطة القضائية من الاستفراد بالمجتمع وتجاوز ارادة السلطات الأخرى، خلافاً للفهم المغلوط عن استقلالية القضاء وفصل السلطات. من جهة أخرى، وفي هذا المجتمع المثقل بالجراح في مختلف مرافقه، هل يصح منح القاضي سلطة لا يملكها حتى القاضي الفرنسي مع كل ما تميز به الأخير كما ذكرت من بيئة ثقافية ونظام سياسي يهيؤه أكثر بكثير من زميله العراقي الحالي لممارسة صلاحياته بالتجرد المطلوب. وأذكر هنا بأن تنظيم القضاء الحديث في العراق والبلدان العربية (ومنذ أيام العثمانيين الأخيرة) استند على تجارب غربية وفي مقدمتها التجربة القانونية والقضائية الفرنسية.

بعبارة أخرى، وللتأكيد على أن الموضوع لا يتعلق بأشخاص القضاة، أذكر بأن تركيبة النظام السياسي والنظرة الى الواقع المعاش في العراق بشكل عام تفرضان خضوع السلطة القضائية لفترة انتقالية وأحكام انتقالية للعبور الى الحالة الطبيعية، كما خضعت لذلك السلطتان التشريعية والتنفيذية. فرغم الثقة المعلنة التي يحملها القادة السياسيون وواضعوا الدستور ازاء بعضهم البعض! فقد انتبهوا الى ضرورة الانتقال تدريجياً الى الوضع الطبيعي ومر بناء النظام السياسي بفترة مؤقتة ثم انتقالية، رغم ملاحظاتنا عليها، الا السلطة القضائية فحرقت المراحل على مستوى النصوص المؤسسة، فقد منحها قانون ادارة الدولة استقلالية وصلاحيات لا تتناسب مع أوضاع البلد بل تخطى استقلالية القضاء في البلدان الديمقراطية، كما ذكرت، وبدون أي نظرة واقعية لعملية الانتقال من ذلك القضاء المحاصر الى القضاء الحر الطليق !!

حقيقة الاستقلالية؟
ولكن الواقع يفرض نفسه، لذلك فرغم الاستقلالية على مستوى النصوص، أثبتت التجربة لحد الآن انها مجرد وهم وان التقييدات موجودة ولكن بدل أن تأتي من قبل السلطات الأخرى المنتخبة وبشكل قانوني ومشروع (أي دستوري ومعلن مسبقاً)، فان هذه الضغوط (المحلية والأجنبية) تُمارس في الواقع من جهات عديدة تختفي خلف الكواليس. صحيح ان الضغوط الخفية تُمارس على القضاء حتى في الأنظمة المتقدمة ولكن ترك الحبل على الغارب من قبل القادة والمشرعين بحجة الاستقلال الوهمي للقضاء تركت المجال لأن تأتي هذه الضغوط بطرق مختلفة ومنها المشبوهة. واُذكر هنا بالوقائع التي حصلت في هذا المجال:

- تنظيم المحاكمة وتصورها تم على يد الأمريكان، وقد ظهرت هذه الحقيقة على شاشات التلفزيون والصحف الغربية.

- اختيار الكوادر القضائية تم أيضاً على يد الأمريكان ومعاونيهم من العراقيين. وبذل جهد كبير ولكن متسرع وغير كاف لتدريب هؤلاء القضاة على القواعد القانونية والاجراءات القضائية الدولية لا سيما فيما يتعلق بجرائم ضد الانسانية وجرائم الحرب.

- اختار الأمريكان استراتيجية المحاكمة بحيث تستجيب لحاجتهم في مواجهة الرأي المعارض في أمريكا وأوربا بالخصوص، لعرض جرائم صدام وكيف أن العراقيين الآن يحاسبون جلادهم في محاكمة حضارية تتفوق حتى على القضاء الأمريكي !!

- وفي هذا السياق، اتخذ القرار بنقل تسجيل المحاكمة (بعد أقل من ساعة). وكان هذا من الأخطاء الفادحة، كما سنرى في مقال قادم، بل تطور الى عرض لاعتداءات جديدة بحق العراقيين، ضحايا الارهاب السلطوي الصدامي. وكان قرار النقل التلفزيوني أمريكياً، كما يبدو واضحاً.

- كان اختيار القاضي روزكار أمين حجر الزاوية في هذه الاستراتيجية، حيث عرف هذا القاضي منذ نعومة أضفاره بهدوئه المفرط، كما عرفت من أصدقاء مقربين له. وأريد لهذه المحاكمة معالجة مَرض اعجاب بعض الجماهير العربية بحكم الطغاة لتشاهد بأم عينها ما فعله هذا االمستبد من جرائم لا يرضاها دين ولا عرف ولا قانون، والمقصود هو تخليصها من هذا المرض. لكن الذي حصل هو أنها شاهدت صدام يسرح ويمرح مع جلاوزته وهكذا تقلص الأثر المطلوب الى حد كبير.

- وكان الهدف الأهم هو الاهتمام بتربية العراقيين وتشجيعهم، من خلال المحاكمة، على نبذ الانتقام الشخصي والاعتماد على القضاء العادل ولكن هذه المحاكمة بدأت تدفع بالعراقيين الى الكفر بالقضاء المستقل وربما يصل التذمر الى الديمقراطية وعدالتها!! ولم نكن لنتعرض لكل هذا لو أشرف على تنظيم المحاكمة عراقيون واقعيون ومؤمنون فعلاً بعدالة القضاء. ويبدو أن القادة السياسيين انشغلوا عن كل ما حصل بحجة استقلالية القضاء وللتفرغ لمطبخهم التوافقي والوزاري بالخصوص!

- واليوم وبعد تغيير القاضي، يخضع السيد رؤوف عبد الرحمن، كما يبدو، لضغوط متناقضة ونلاحظ بدء تأثره بها، حيث كان في جلسته الأولى متوازناً وصارماً في منع التجاوزات، بينما خيّم شبح روزكار على محاكمة الثلاثاء 14/2/2006. وعاد صدام الى الاستهزاء وشتم القاضي (ألعن أبو شاربك !!) وتقمص برزان دور صدام في quot;مساعدةquot; القاضي وquot;تنويرهquot; ليمارس القضاء بشكل quot;أفضلquot; في القضية المطروحة. ويبدو أن القاضي أصابه الدوار بين أنواع الضغوطات التي ظلت تتمثل في ذهنه والشتائم التي تلقاها من هؤلاء المجرمين القتلة دون أن يستطيع ردهم، فأجل المحاكمة لاسبوعين!

ويوم أمس صرح محامي صدام، خليل الدليمي، بأنه وزملاءه أقنعوا quot;رئيسهquot; بحضور المحكمة والتوقف عن اضرابٍ عن الطعام دام حسب قوله 11 يوماً. وبناء على ما قدمته من ملاحظات، يبقى السؤال الآن عن ماذا تخبئ لنا جلسات أو quot;مصارعاتquot; الثلاثاء 28 شباط (فبراير) وما يليها ياترى؟؟

باحث أكاديمي
[email protected]