إيلاف من الدوحة: في خطوة دبلوماسية بالغة الدلالة، التقى رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بالرئيس السوري أحمد الشرع في العاصمة القطرية الدوحة، برعاية وحضور أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، في لقاء تجاوز البروتوكولات، وحمل رسائل واضحة عن عودة العراق إلى المشهد العربي كقوة فاعلة وموثوقة، تسعى لتأمين أمنها الداخلي عبر خلق توازنات إقليمية دقيقة.
وجاء هذا اللقاء في سياق جهود عراقية مكثفة يقودها السوداني بهدوء وثقة، لتثبيت موقع بغداد في معادلة الامن الإقليمي. فمنذ توليه رئاسة الحكومة، حرص السوداني على تعزيز أطر التعاون الأمني والاقتصادي مع الجيران، والآن يتحرك بخطى مدروسة لفتح قنوات حوار جديدة وتفعيل ما كان مجمّدًا من علاقات إقليمية.
ولا يمكن فصل هذا اللقاء عن الرؤية العراقية الواضحة للعودة إلى الحضن العربي، ليس كشريك فقط، بل كوسيط وقائد معتدل يحمل مشروعا لاستقرار المنطقة. فالعراق اليوم يملك رصيدا سياسيا نادرا، جمع بين تقاربه مع الخليج، وعلاقته المتوازنة مع إيران، وانفتاحه المستمر على سوريا وتركيا، مما يؤهله لأن يكون منصة تفاهم وليس ساحة صراع.
من جهته، عبر الرئيس السوري أحمد الشرع عن حرص حكومته الجديدة على تدعيم العلاقات مع بغداد، إدراكا منه للدور المركزي الذي يمكن أن تلعبه العراق في كسر العزلة السورية وتجاوز التحديات الاقتصادية والسياسية المتراكمة، في إشارة واضحة بأن هناك تقاطعًا في المصالح والرؤى بين البلدين، خاصة في ملفات الأمن الحدودي، ومكافحة الإرهاب، والتكامل الاقتصادي.
وما يضفي على الاجتماع بعدا أكبر هو توقيته، إذ تزامن مع مفاوضات معقدة بين الولايات المتحدة وإيران تُعقد بوساطة مسقط، ما يجعل العراق حاضرًا — ولو بشكل غير مباشر — في مفاصل إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية، ما يعني ان باجتماع السوداني مع الشرع، يرسل العراق رسالة مزدوجة: الانفتاح من دون انحياز، والدبلوماسية بدلا من التورط في محاور متصارعة.
ومنذ شهور، يقود العراق حراكا نشطا لتهدئة الأوضاع الإقليمية، بدءا من الوساطة في حوارات بين الرياض وطهران، وصولا إلى لعب دور تسهيلي وليس توجيهيا في الملفين السوري واللبناني. ففي سوريا، يرى العراق مصلحة في تعزيز جسور التواصل بين دمشق والعواصم العربية، مستغلا موقعه المتوازن وعلاقاته الجيدة مع مختلف الأطراف، ليكون حلقة وصل تفتح نوافذ الحوار بدل التصعيد. أما في لبنان، فكان للدعم العراقي — خصوصًا في أوقات الأزمات الاقتصادية وتلك المتعلقة بالطاقة — دور في تخفيف الاحتقان، إضافة إلى استقباله لزيارات رسمية وغير رسمية عكست رغبة بغداد في أن تكون طرفًا مساعدا لا طرفا منحازا.
وهذه السياسة الناعمة تعكس يقين السوداني بأن الاستقرار الأمني في الداخل العراقي مرتبط ارتباطا عضويا بحالة الإقليم، ولذلك فهو دائما ما يتحرك من منطلق استراتيجي وليس ظرفيا.
وبرؤية واقعية وبعد نظر، يلقي رئيس الوزراء العراقي بكل ثقله السياسي في رسم مستقبل آمن للعراق، لا يعتمد فقط على تهدئة الأوضاع، بل على بناء مسارات تنموية واقتصادية واستثمارية مستدامة، وما نشهده اليوم هو امتداد لسياسة بدأت منذ توليه المسؤولية، تقوم على تثبيت الاستقرار، ومحاربة الفساد، وتحويل العراق إلى بيئة جاذبة للفرص بدلا من الأزمات.
وياتي هذا الزخم السياسي بينما يستعد العراق لاستضافة القمة العربية المقبلة، والتي من المتوقع أن تكون استثنائية في توقيتها ومضمونها، وتشكل تتويجا لكل هذه التحركات الهادئة التي يقودها السوداني. وتمثل القمة فرصة ذهبية لبغداد لتأكيد موقعها القيادي واستعادة ثقلها العربي عبر منصة جامعة وشاملة. وتحمل هذه القمة أهمية خاصة للعراق، إذ تأتي كأول قمة تستضيفها بغداد منذ سنوات طويلة، وتعد اختبارا حقيقيا لنجاح السياسة العراقية في استعادة ثقة محيطها العربي. كما تمثل لحظة رمزية تعكس تجاوز العراق لمراحله الصعبة، وتحوله إلى طرف قادر على جمع الفرقاء، وصياغة رؤى مشتركة لأزمات المنطقة. ويعول السوداني على نجاح هذه القمة لتكون إيذانا بعودة العراق إلى دوره التاريخي كرمانة ميزان في المنطقة وتكريسا لصورته في عهد السوداني كدولة مستقرة ذات وزن، تقود بدبلوماسية متزنة نحو حلول جماعية لا صدامات فردية.
ووبتحركات السوداني، يُعاد رسم خريطة النفوذ والقيادة في المنطقة، وبات العراق قادرا على ان يمسك بخيوط اللعبة بتوازن استثنائي حتى ولو لقى السوداني معارضة داخلية من طرف هنا او هناك إلا ان الصورة الكاملة بدأت تتكشف بما يطمئن العراقيين لاسيما مع اقتراب الانتخابات المقبلة، حيث تخطى العراق مع السوداني حتى الآن الكثير من التحديات منذ اندلاع الحرب على قطاع غزة.
لقاء السوداني والشرع لم يكن مجرد مصافحة، بل إعلان ناعم عن عودة العراق لاعبا محوريا في مستقبل الشرق الأوسط، حاملا راية الاستقرار لا الصراع، والبناء لا الهدم، والتقريب لا التفريق.
التعليقات