قتلوا فقتلنا.. ونقتل فيقتلون


الأفعال الإنسانية، تحكمها عوامل عدة، أهمها البيئة بمجملها، جغرافية و إجتماعية وثقافية، فللمجتمع الدور الأكبر في تشكيل سلوك أفراده، سواء كان هذا السلوك في إنعكاسه على الفرد ومن ثم المجتمع، إيجابيا، أو سلبيا، والمجتمع الذي يفاخر بنتائج هذا السلوك، الإيجابية، فيعتبر نفسه منتجا لهذه الإيجابية عبر إنتاجه الإجتماعي للأفراد، هو ذات المجتمع الذي أنتج السلوك السلبي (المجرم) لأفراده، وعلى هذا المجتمع أن ينظر بتمعن إلى مواطن الخلل وأوجه التناقض التي أدت إلى هذا السلوك المدان.

فمثلا في الجرائم المخلة بالأخلاق، نجد جذر هذا الغموض، والمؤدي لهذا النوع من الجرائم، حسب ما أرى، فما يعتمده في منظومته (الأخلاقية) من مقولات غامضة ومواربة، كمفهوم (العيب) مثلا، في تفسير واحدة من أهم العلاقات، الأمر الذي يسقط هذه العلاقة في هوة الهواجس الناتجة عن هذا (لعيب)، فيحبس كل ما يخص الجسد، ويتعلق به، داخل إطار (أخلاقي) وهو أبعد ما يكون عن هذا الوصف، فالمجتمع الذي يحتجب خلف العيب، غرق بشتى أنواع البضائع والسلع المادية والثقافية، الكافية لتشويه أرقى العلاقات وأرفعها .

فالمجتمع الذي يغلق عقله، ويرهب عقل أفراده، يقبع في الغموض، بعيدا عن التوعية الناضجة والصحية، للعلاقات الإنسانية، لا بد أنه يفتح ألف طاقة وممر سري، معتم، ليخاطب بما يخرجه كإنسان عن وصفه وجوهره، أنى كان موقعه في المعادلة الإنسانية.

وكذا الأمرمثلا، عندما نسقط نظاما قضينا دهرا نتعبد تحت أقدامه، ولا نجرؤ على إنتقاده، خوفا على حياتنا، لنستبدلها بموت مستمر وطاعن في الخوف، في الوقت الذي تخلو فيه حياتنا، مناهجنا، برامجنا الثقافية، من أي توعية مسؤولة، عن العلاقات التي تحكم حياتنا، وتُحكم حياتنا، بها ولها، سواء داخل الأسرة، بتقديس يصل عدم التجرؤ على السؤال، وفي مدارسنا، يمتد هذا التقديس ليشمل علوما علينا فهمها لإعادة إنتاجها، ثم الشارع بما يحكمه من قوانين مكتوبة وغير مكتوبة، لا نجرؤ حتى على مساءلتها، فنستمر كما الآلة المبرمجة بما يخدم.... ماذا؟
ليس لدينا ما يخاطبنا بما يتعلق بحقنا وحرياتنا، سواء على جسدنا، أو على فكرنا، و بما يجب أن ينتج عن هذا الوجود الفيزيائي والنفسي الفكري، فلا نكون إلا ضحايا وجلادين، ونقع خارج معادلة الإنسانية.

ألسنا الحيوان / الناطق/العاقل/صانع الأدوات، فإذ بنا أداة توظف ضد وجود العقل والمنطق، فكي لا نكون ضحية أو جلاد، نصيرحرسا، نقبض على كل محاولة للتساؤل، و الذي هو الطريق الوحيد للفهم والإدراك.
إن الأفعال المجرمة، والتي تقع هنا وهناك، نجد جذرها، في التركيبات النفسية المعوجة، والناتجة عن غموض مفاهيم أحيطت بأطر من القدسية، فلم تتم مساءلتها. في زمن وصل الإنسان فيه، لمعرفة معظم القوانين الفيزيائية التي تحكم وجوده المادي، لا بل السيطرة على هذه العلوم وتوظيفها، لا يزال علم النفس، وعلم الإجتماع، وعلم النفسجتماعي، يقف بعيدا، ولا يجرؤ على ملامسة مكمن الداء لتوظف المعرفة العلمية لصالح ورفاه الجنس البشري، لا دماره.
الخوف، (هذه الحالة الإنفعالية وليست الاصيلة)، هو قوام هذه المجتمعات، وسيدها، الخوف من العقاب، الخوف من الفضيحة، الخوف على الحياة (أي حياة)، الخوف على الرزق، الخوف من القبر، الخوف من الحساب، كل حساب وأي حساب، إلا حساب النفس التي ضيعت وقدمت قربانا لهذا الخوف.........

ألا يجب أن يقع على عاتقنا كمجتمع، وكأفراد مكونين لهذا المجتمع، أن نسائل المفاهيم التي تحكمنا وتحكم علاقاتنا، آباء وأمهات، أبناء وبنات، طلبة ومدرسين، علوم وإرث ثقافي، سيد ومحكوم،..... الخ فعند النص على فعل ما، بأنه يشكل فعلا يتطلب عقوبة ما، أليس علينا أن نمعن النظر في جذر هذا الفعل، قبل أن يتحول إلى جريمة يعاقب عليها المجتمع ممثلا بالقانون؟
فما نراه اليوم مثلا، من ممارسات بشعة،، هي إمتداد (طبيعي) لنمط من العلاقات لم نتجرأ بعد على الدخول إلى بواطنها، لنعرف أية أطراف تنتج عنها، فالعلاقات المبنية على الإستضعاف، بما يستتبع هذا الإستضعاف من ممارسات، لا تدان إلا عند بلوغها اقساها وابشعها، هي من يجب أن يدان، فهي بذرة وجذر هذا النوع من الجرائم والممارسات.
فضرب الزوجات مثلا، أو/و الإغتصاب، وكذلك إستباحة أجساد الأطفال، أصبح بلا إنسانيته غير كاف لإشباع الجانب المرضي لمفاهيم القوة المبجلة، فلم يعد يشكل تحديا أخلاقيا لنا، لبداهته في حياتنا الإجتماعية، فصار لا بد من فعل أكثر عنفا وبشاعة للوصول إلى نشوة القوة الجوفاء، والتي لم ولن تشبع، إذ ما هي إلا نتاج مشوه لعلاقات مشوهة، لا ينتج عنها إلا مزيد من التشويه.

قد يكون في إعدام جانٍٍ ما، على جريمة متفق على بشاعتها، دور كبير في إمتصاص مشاعر الغضب والإستنكار، خاصة إذا تمت بالطرق (السادية/الإنسانية المتاحة) وقد يكون للعقوبات أثرها الرادع بما توجده من حالة خوف منها، ولكن أليس الخوف حالة إنفعالية، وبذا هي حالة عارضة، عابرة، ومؤقتة، والإعتماد عى الخوف، كرادع للجريمة، لا يكفي، ولا يقلل من نسبتها، إذا لم يتم البحث والغوص (بلا خوف) في جذورها. قرأت قبل سنين أن السويد تنحو بإتجاه إلغاء كلمة سرقة من معجمها، فما تحقق من رفاه إجتماعي، ناتج عن أنظمة وقوانين الضمان الإجتماعي، خفض نسبة السرقات حد زوالها، هذا قبل سنين،

ليس دفاعا عن الجاني، وليس إدانة له، فبفعله أخرج نفسه عما اتفق عليه لغايات الإجتماع، وبخروجه عن المجتمع، مكننا من أن نجعل منه موضوعا للدراسة، ليمكننا من فهم الدوافع والأسباب، والعمل على عدم إعادة إنتاجها، لكي لا نتحول كلنا إلى ضحايا وجلادين.