حكومة انتخابات أم توافق زعامات

يعيش العراق اليوم لحظة عصيبة من تطوره السياسي حيث كثر الجدل حول مسألة بديهية تتمثل بتشكيل الوزارة quot;من قبل مرشح الكتلة النيابية الأكثر عدداًquot; (المادة 73 أولاً). وبغض النظر عن المصالح السياسية والفئوية، لهذا الطرف أو ذاك، وعن الدور الأمريكي ومقاصده من تأجيج هذا الصراع، لم يكن لهذا الجدل أن يستفحل لولا مبدأ التوافق الذي روجت له بعض الأطراف السياسية وتم ترديده من قبل الكثيرين دون وعي بما سيجره من مصاعب. فمن تشكيل حكومة وطنية كمبدأ اتفقت عليه جميع الأطراف، مع ما يتطلبه من برنامج واضح وتماسك حكومي يسمح بتنفيذه، تسللت النقاشات الى ما يشبه الفوضى السياسية وصار قادة كل قائمة يتكلمون وكأنهم هم المكلفون بتشكيل الحكومة. ثم صرح الرئيس الطالباني في مؤتمره الصحفي مع السفير الأمريكي، وتزامناً مع اختيار الائتلاف لمرشحه، بأن مشاركة التحالف الكردي رهم بمشاركة قائمة د. علاوي. الى جانب ذلك، طرحت فكرة مجلس فوق الحكومة وفوق الدستور يُشكل من رؤساء جميع الكتل quot;الفائزةquot; مع أصحاب مناصب أخرى في الدولة، وقد شبهه البعض quot;بمجلس قيادة الثورةquot; (د. صالح المطلق) أو مجلس الأمن القومي كما أسمته بعض القيادات الكردية. ثم أعلن الاستاذ جلال الطالباني من مقره كرئيس للجمهورية اعتراضه على تكليف الجعفري. وهكذا يمكن توصيف ما أنتجته هذه المواقف بلامعقول المشهد السياسي العراقي.

لقد بينت في مقالات سابقة، لا سيما عند معالجة قانون ادارة الدولة ومجلس الأمن القومي، خطر مبدأ التوافق وأثره في اضعاف النظام السياسي وفي تحويله للديمقراطية الى محاصصة بين القيادات quot;المتوافقةquot;. أما اليوم فسأعالج التوافق كمصطلح وطني وكمبدأ سياسي، مبيناً أهم أضراره السياسية.

التوافق كمبدأ وطني:
يعني التوافق اتفاق الجميع على المبادئ التي تعتبر أساسية في هذا المجتمع أو ذاك. وفي عراق اليوم، يمكن أن تشكل المبادئ العامة الآتية موضوعاً للتوافق العام:

- وحدة العراق
- سيادة العراق الكاملة والعمل على انسحاب القوات المتعددة الجنسيات
- محاربة الارهاب وتحريم استهداف المدنيين
- دعم المسيرة الديمقراطية
- تعويض ضحايا النظام الصدامي
- محاكمة صدام وزبانيته على ما اقترف من جرائم مزرية بحق الشعب العراقي.

ورغم أن هذه المبادئ تشكل موضوعاً معقولاً للتوافق لسعتها وارتباطها بفكرة المواطنة الصالحة التي يراد تأسيسها، الا أننا يجب أن نعترف بالواقع ونقول أنها لا تحظى بتوافق وطني عام، فوحدة العراق تدفع البعض الى رفض الفيدرالية، وانسحاب القوات أمر غير محسوم عملياً، ومحاربة الارهاب وقتل المدنيين لم يتم تكفيره وتجريمه اسلامياً ولا وطنياً من قبل البعض من السياسيين، رغم البداية الخجولة في هذا الاتجاه منذ تفجير سامراء. كذلك يتسلى البعض بذكر الدبابات الأمريكية لتبرير رفضه للمسيرة الديمقراطية ، أما تعويض الضحايا فمحل خلاف ومحاكمة صدام لا تحتاج الى كلام. فكيف إذا يمكن الحديث اليوم عن التوافق (بين الأضداد السياسيين) في اطار حكومة ذات برنامج وفي مواجهة تحديات هائلة تهدد حتى أصحاب القائمة الواحدة بالتفرق والاختلاف. فكلما اشتدت التحديات كلما احتجنا الى حكومة أكثر تماسكاً، كما تشهد على ذلك التجارب العالمية بشكل عام، والتجربة العراقية (قانون ادارة الدولة) بشكل خاص.

وفي الغرب يعتبر التوافق مفهوماً غير ذي معنى حقيقي، بل ويعتبره الكثيرون مضللاً على مستوى الوعي ومضراً على المستوى السياسي/الحكومي لأنه يؤدي الى تشكيل مواقف محكومة بتناقضاتها وتهافتها. وفي العراق، يستند البعض الى الوضع الخاص ليبرروا عدم قبولهم بحكومة الأغلبية الفائزة، ولوا أنهم اكتفوا بالمناداة بحكومة وطنية وبرنامجها الواضح، لكنا اتفقنا معهم لكنهم أفصحوا عن ارادة واضحة باستخدام مفهوم التوافق لكي يضيفوا استحقاقات quot;الزعاماتquot; الى استحقاق الانتخابات أو ليلتفوا عليها كما في مجلس الأمن القومي، ليصبح حكم البلاد أشبه بقنبلة موقوتة إإ

أضرار التوافق والمحاصصة
من جهة أخرى، يكرس التوافق المعالم المذهبية والقومية للزعماء quot;المتوافقينquot; الى أسس سياسية ويحولها في واقع الحال الى محاصصة طائفية وعنصرية مقيتة. بينما يريد جميع المخلصين الانتهاء من الوضع الانتقالي وما أنتجه من مظاهر سيئة. وبناء على التجربة الماضية، على مستوى الحكومة quot;الفيدراليةquot; وأيضاً حكومات الأقليم والمحافظات، يمكن تلخيص أهم أضرار التوافق ومحاصصته كما يلي:

1- زرع بذور الاقطاع السياسي بتكريس دور زعماء معينين في النظام السياسي والاداري ومعهم موالوهم والأقربون ! وقد نشهد قريباً بروز أبناء أو اخوان هذه الشخصيات لوراثتها في مواقع السلطة ومغانمها لا سيما الاقتصادية، وهذا ما يذكرنا بالتخريب الذي عانت منه العديد من بلدان العالم الثالث. لا سيما وان أغلبية الموالين للزعماء هم ممن لا يمتلكون الكفاءات أو على الأقل لا تتناسب كفاءاتهم مع المواقع التي سيطروا عليها فنستطيع بسهولة تقدير الخراب الحاصل.

2- منع أبناء البلد الآخرين من الارتقاء بناء على الكفاءة والنزاهة في مناصب الدولة حتى في الدرجة الثانية لأن المتزلفين والأقرباء الآخرين، حصلوا أيضاً على مكافئاتهم من أصحاب quot;الفخامة والسيادة والسعادةquot;، وذلك بالخصوص على حساب أبناء البلد من صحاب الكفاءات غير الملتفين حزبياً وقرابياً حول هؤلاء الزعماء.

3- تقتل هذه الممارسة عند استمرارها روح الوطنية والتفاني لأنها تنشر التزلف والانتهازية وتشيع اليأس ونصبح تدريجياً، وعلى حد تعبير غوار الطوشي (دريد لحام)، في quot;حارة كل من ليه الوquot;. وكما يعرف الجميع ان هذا الواقع يشكل أهم أسباب تقهقر البلدان المبتلية بالدكتاتورية، فهل يُعقل تكريس هذه الظاهرة السرطانية بحجة التوافق، رغم نجاح الانتخابات وعلى حساب العراق المثخن بالجراح...

4-تؤدي فكرة التوافق الى تضليل الوعي السياسي، اذ يتم الخلط بين التوافق الوطني الذي ينبغي أن يجمع العراقيين كمواطنين صالحين ولا زلنا نسعى الى تحقيقه، كما ذكرنا، وبين توافق مزعوم (بين السياسيين) يغطي الخلافات كمن يغطي ضوء الشمس بغربال. لأن العمل السياسي الحكومي لا يمكن أن يقوم على التجميع. بل على اتفاق بين أفراد مجموعة لا تشكل، مهما كبرت، الا جزء من المجتمع. ثم لنفترض جدلاً تشكيل حكومة تضم كل القوائم الفائزة فهذا يعني عملياً أنها اتفقت على تقاسم الكعكة دون احتراب داخلي فيما بينها... وعندها ستتحول رغم اتساعها النظري الى حكومة أقلية سياسية وبدون شعبية حقيقية، وستقود البلاد الى دكتاتورية مجلس الزعامات.

وأخيراً وبينما تفرض المصلحة الوطنية القضاء على ممارسات التوافق ومحاصصاته، نرى البعض يدعو الى تكريسها وادخال زعماء جدد في اطارها ليتقاسموا المناصب والامتيازات مع الموجودين فيها اليوم. لذلك نذكر هذا البعض بأن الشعب العراقي اختار النظام الديمقراطي الذي لا يقوم فقط على اعتبار الاختلاف في المواقف والمصالح أمراً طبيعياً بل، أكثر من ذلك، يعتبر الاختلاف أساساً لآلياته ومؤسساته، اذ يقوم على تنظيم الاختلاف وحسمه بآليات سياسية واضحة لا بالمجاملات وبآليات النفاق الاجتماعي المعروفة. لذلك نجحت الأنظمة الديمقراطية نسبياً في تثبيت الاستقرار وتحقيق الازدهار وسقطت بصورة مريعة الأنظمة القائمة على التراضي الخادع وتقبيل الزعماء لبعضهم في العلن....

باحث أكاديمي
[email protected]