رُسمت صورة أوروبا في التاريخ الإسلامي القديم وفي الآداب الإسلامي ـ ة من خلال جغرافيين عرباً ومسلمين بارزين ظهروا في القرن التاسع والعاشر الميلادي، ومن أهمهم: اليعقوبي وابن خرداذبه والمسعودي وابن فضلان وابن حوقل والإصطخري وابن سعيد الغرناطي وغيرهم. ولا شك بأن هؤلاء جميعاً قدموا صورة شبه حقيقية لما ك ـ ان عليه الغرب في تلك المرحلة. كما أن الجغرافي الإدريسي في القرن الثاني عشر ق ـ دم لنا مشاهداتـه الخاصة في كتابه quot;نزهة المشتاق في اختراق الآفاقquot; وك ـ ان صادقاً فيما كتب ع ـ لى عكس ما قرأنا من مشاهدات المتعصبين الدينيين عندما زاروا الغرب للعلم والسياحة، كسيد قطب وغيره. وكانت جملة الصور التي قدمها هؤلاء الجغرافيون والمؤرخون عن أوروبا بعيدة عن التعصب الديني والسياسي، وتنحصر في أوروبا الشرقية أكثر منها في أوروبا الغربية. وكانت هذه الصور تقول لنا أن الشعوب الأوروبية كانت شعوباً بربرية منحطة غارقة بالجهل والعدوان. فلم يعترِ هؤلاء المؤرخين والجغرافيين الحقد والكيد الذي اعترى المتشددين الدينيين الذي زاروا الغرب وشاهدوه في النصف الثاني من القرن العشرين. وكانت تحكم نظرتهم وانطباعاتهم عن الغرب أيديولوجيا ضيقة معينة. ولم يعرف العرب والمسلمون أوروبـا على حقيقتها إلا بعد حملة نابليون على مصر في نهاية القرن الثامن عشر رغم أن الصليبيين قد وصلوا إلى العالم العربي في القرن الحادي عشر وظلوا في الشرق العربي والإسلامي طيلة ربع قرن من الزمان (1075-1200). فنقرأ أن أسامة بن المنقذ (1095-1188) مؤرخ الحملات الصليبية لم يذكر عن الصليبيين غير جهلهم وشجاعتهم. وكان موقف هذه المؤرخ من أوروبا عموماً هو quot;موقف اللامبالاة مثله مثل سابقيه من المؤرخين. وبذا لم تحث الحملات الصليبية على العالم الإسلامي المسلمين إلى التعرف على هؤلاء الفرنجةquot; الذين جاءوا غزاة وحكمـوا بيت المقدس فترة طويلة من الزمان. وربما كان مرد هذا كله إلى أن الصليبيين لم يأتوا بمظاهر حضاريـة ومدنية تستوجب الالتفات من المؤرخين والمفكرين العرب والمسلمين كما تم ذلك بعد سبعـة قرون، عندما قاد نابليون حملته على مصر في العام 1798. إضافة لذلك، فإن نظرة التعالي العصبية القبلية والشعور بالتفوق الذاتي، ح ـ الت دون العرب - قبل حملة نابليون - ودون الالتفات إلى ما كان يجري في أوروبا من تغيرات وتقدم حضاري.

وعندما خضعت البلاد العربية للعثمانيين (1517-1918) كان العثمانيون قد أنشأوا ستاراً حديدياً ثقافياً سميكاً بينهم وبين أوروبا. وكانت هناك قطيع ـ ة ثقافية وسياسية مُحكمة مع الغرب بسبب التعالي والتفوق الذاتي والعسك ـ ري العثماني، كما كان الحال عند العرب سابقاً. ولم تبدأ هذه القطيعة بالانحلال والانفراج إلا في النصف الثاني من القرن السابع عشر حيث تم إرسال أول بعثة عثمانية إلى أوروب ـ ا في العام 1664. ولم تفتتح الدولة العثمانية سفارات رسمية لها في أوروبا إلا في أيام السلط ـ ان سليم الثالث (1789-1807) ولم يكن هناك تواصل ثقافي قبل ذلك إلا في حـدود تبادل الخبرات العسكرية وفتح المدارس العسكرية بخبرات أوروبية وفرنسية بالدرج ـ ة الأولى، وترجمة بعض الكتب الأجنبية في علم العسكرتاريا. وعندها أدرك العثمانيـون أنهم يعيشون منذ قرون طويلة في ظلام دامس وجهل فاضح، كما جاء على لسان محمد جلبي السفير الذي أوفده السلطان أحمد الثالث إلى باريس في العام 1720 للتعرف على المؤسسات الإداريـة الفرنسية وكيفية عملها وما يمكن الاستفادة منها في الإمبراطورية العثمانيـة، فاكتشف جلبي بأن الفرق بين العثمانيين والغرب هو الفرق بين الليل والنهار.

وعندما قامت الثورة الفرنسية في العام 1789 لم يُعر العثمانيون انتباهاً لهذه الثورة، وكأن الأمر لا يعنيهم من قريب أو من بعيد. و ليس لدينا ما يشير إلى أن العثمانيين كانوا على إدراك تام بمغزى التبديل الذي حصل في فرنسا. بل على العكس من ذلك فقد اعتُبرت الثورة الفرنسية شأناً داخلياً بحتاً. وأما العرب الذين كانوا تحت الاحتلال العثماني فلم يعرفوا شيئاً عما جرى في فرنسا من أحداث ثورية. ولم يدرك العرب أن هناك ثورة في فرنسا إلا عندما جاءت حملة نابليون إلى مصر. والدليل أن عبد الرحمن الجبرتي كان قد كتب كتابه quot;عجائب الآثارquot; قبل مجيء الحملة الفرنسيـة في العام 1798 ، ولم يُشر في هذا الكتاب لا من قريب ولا من بعيد إلى أوروبا أو إلى ما يحصل في فرنسا من تغيرات تاريخية وسياسية واجتماعية. وهو دليل واضح وقاطع على أن القطيعة الثقافية مع الغرب ظلت قائمة تسعة قرون كاملة غير منقوصـة، من نهاية القرن التاسع الميلادي إلى نهاية القرن الثامن عشر. ومن هنا نستطيع القول، بأن حملة نابليون على مصر هي التي فتحت عيون العرب على الغرب. وكانت أول اتصال حضاري حقيقي وواقعي مشهود بين العرب والغرب وبين الإسلام والغرب بعد تسعة قرون من الغياب والقطيعة الثقافية والحضارية. ولولا مجيء نابليون إلى مصر لكان تاريخ المنطقة العربيـة قد تغير إلى شكل آخر كلية يمكن قراءته من خلال عدة سيناريوهات للواقع المضاد Counter factual . ويؤيد هذا الرأي عدة مفكرين عرب معاصرين، ومنهم طه حسين الذي يعتبر حملة نابليون ليست بداية لغزو، ولكنها بداية لنهضة على مصر، كما يعتبرها quot;حملة مباركةquot;. وأن مدافع نابليون هي التي أيقظت مصر من سباتها العثماني، ووضعت حداً لقرون العرب الوسطى. فكانت إيذاناً بالنهضة. وكذلك يقول المفكر المغربي علي أومليل. (طه حسين، ابن خلدون وفلسفته الاجتماعية، ص166) و (علي أومليل، الاصلاحية العربية والدولة الوطنية، ص137). وبعد حملة نابليون أصبح الغرب مرآة للشرق. وبدأت القطيع ـ ة الثقافية بالانحلال والتلاشي. وكان أول عمل ثقافي بدأ بإزالة هذه القطيعة كتاب رفاعـة الطهطاوي (1801-73) quot;تخليص الأبريز في تلخيص باريزquot; الذي كتبه في العام 1831 بعد عودته من رحلته التعليمي ـ ة في فرنسا، عندما شرع محمد علي باشا في فتح أبواب مصر وعقلهـا في وجه الحضارة الغربية والفرنسية على وجه الخصوص. وأهمية وخطورة كتاب الطهطاوي هذا، لا تنبع من الوصف الذي جاء به لفرنسا فيما يتعلق بمصانعها وتنظيم إدارتها وموظفيها وجيشها وجمـال عمرانها ونظافة مدنها وعِظَم معاهدها ورقي تعليمها وارتفاع مستوى معيشة سكانها، وكل هذا قد تم في غفلة من العرب والمسلمين. فهذا كله قد سبقه إليه في العام 1721 المؤرخ التركي محمد جلبي أفندي في كتابـه quot;سفارتنامـةquot; الذي كتبه قبل أكثر من مائة عام من تاريـخ كتاب الطهطاوي. ولكن الشيء الجديد الذي جاء به الطهطاوي في كتابه، ولم يأتِ به التركي الجلبي، هو نفاذ الطهطاوي إلى حقيقة ما جاءت به الثورة الفرنسية، ومن قبلها الإصلاح الديني الأوروبي، وهو تألق عصر العقل، ومعنى الحداثة في النهضة الأوروبية، ورسوخ الفكـر العَلْماني، وهو ما عبَّر عنه الطهطاوي ndash; ربما من حيث يدري أو لا يدري - بقوله:
quot;إن الفرنسيين ينكرون خوارق الطبيعة، ويعتقدون أنه لا يمكن تخلف الأمور الطبيعية. وهم يعتقدون أن الأديان إنما جاءت لتدل الإنسان على فعل الخير. وأن عمارة البلاد وتطرق الناس وتقدمهم في الآداب تسدُّ مسدَّ الأديان. وأن الممالك العامرة توضع فيها الأمور السياسية كالأمور الشرعية. وأن الفرنسيين يقولون أن عقول حكمائهم أعظم من عقول الأنبياء. وذلك قبح منهمquot; (المؤلفات الكاملة، ج2، ص79).

وهذا quot;المانيفستوquot; الفرنسي الخطير الذي نقله إلينا الطهطاوي عبر كتابـه، والذي لم يلتفت إليه كثير من قراء كتابه في القرن التاسع عشر، كان أهم رسالـة نقلها إلينا الطهطاوي من الغرب إلى الشرق. وهي تُلخّص ما انتهى اليه العقـل الغربي مقابل الفكر العربي. وكـان هذا quot;المانيفستوquot; الخطير هو الذي بَرَدَ وسنَّ أسلحة الإسلاميين المتشددين ممن فهموا معنى كلام الطهطاوي هذا، في نهايات القرن التاسع عشر، وخلال القرن العشرين للصدام بين الغرب والإسلام. واعتبروا أن فرنسا والغرب العَلْماني من ورائهـا هي quot;دار حربquot; يجب أن تتحول إلى quot;دار إسلامquot;. واعتبر المتدينون المتشددون من العرب والأتراك - وبتحريض من يهود الدولة العثمانية النافذين آنذاك - في القرن التاسع عشر أن كل ما كان يأتي من الغرب لا يتعدى أن يكون زندقة وسفالة فرنسية. في حين كان المسلمون في الهند أكثر مرونة وأعمق فهماً لروح الحضارة الغربية، كما قرأنا فيما كتبه السيد أحمد خان، ومن بعده أمير علي.

ولعل ما قام به مفكرو عصر النهضة من العرب والمسلمين من المناداة بالديمقراطية والعدالة والمساواة والقضاء على الطغيان والاستبداد، وهو ما شاهـدوه في أوروبا جعلهم يعودون إلى بلادهم، ويبحثون في الدين الإسلامي عن بصيص لهذه الأفكـار لكي يقمِّشوا الإسلام بها من خلال إيقاظ أفكار الشورى الإسلامية والعدالة الإسلامية. وقد بلغ بهم الأمر في مناسبات كثيرة أن خالفوا وصيـة عمر بن الخطاب في عدم تحميل هذا الدين ما لا يحتمل. فحمّلوا الدين بما لا يحتمل، وبما لم يقل، وبما لم يعِ من قبل، حتى لا يقال عنهم إنهم ينادون بتطبيق أفكار غربية ومبادىء غربية بعيدة عن الدين، وغريبة عن تراث السلف وما أخلف للخلف.
إن لقاء الإسلام والغرب يكاد يكون مستحيلاً في ظل اختلاف الأيديولوجيتين الإسلامية والغربية. وإن العقلاء وحدهم في الشرق والغرب هم المناط بهم عدم حدوث صدام بين الغرب والإسلام. فلا شك أن أيديولوجية الإسلام تختلف عن الأيديولوجية الغربية. وأن صراع الأيديولوجيات وصدامها مع بعضها بعضاً من ثوابت التاريخ وحتمية التطـور في رأي البعض في الشرق والغرب. ولكي ندرك الفرق بين أيديولوجية الإسلام وأيديولوجية الغرب وسبب الصـراع المحتمل بينهما، ولا سيما في القرن الحادي والعشرين، دعونا نعقد المقارنة السريعة التالية بينهما:

1- يقول الإسلام بأن الإنسان مخلوق، ويقول الغرب بأن الإنسان خالق.
2- يقول الإسلام بأن الله هو سيد الكون المُطاع، ويقول الغرب، بأن الإنسان هو سيد الكون المُطاع.
3- يقول الإسلام بأن الله هو سيد الإنسان، ويقول الغرب بأن الإنسان سيد نفسه.
4- يربـط الإسلام وجود الإنسان والعالم بسبب خارجي هـو الله، في حين ينظر الفكر العلمي في الغرب إلى الإنسان والعالم لذاتهما، في معزل عن أي سبب خارجي.
5- يُقرُّ الإنسان في الإسلام غيب الله كعلم سري، بينما يُلغي الغرب ما يُسمّى بالغيبيات والعلم بالغيب.
6- يعتبر الإسلام مجتمعاً مثالياً أخلاقياً روحياً ، بينما يعتبر الغرب مجتمعاً مادياً أخلاقياً مختلفاً. وللعلم فإن طه حسين ينكر في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) أن الحضارة الغربية حضارة مادية، وأن الحضارة الشرقية حضارة روحية. ويقول إذا كان الشرق كذلك فهو ليس شرقنا، بل الشرق البعيد. وإذا كانت أوروبا مادية فإنها تنطوي أيضاً على روح عظيمة تدفع إلى التضحية في سبيل العلم.
7- يمتثل الإسلام إلى الشريعة، في حين يتمثل الغرب إلى الحكمة والعقل.
8- يعتبر الإسلام أن ثنائية الخير والشر من عند الله، بينما يعتبر الغرب أن ثنائية الخير والشر من صنع الإنسان.
فهل من أجل هذه الفروقات في العقائد يمكن للصدام أن يتم بين الإسلام والغرب؟
ولِمَ لا وقد كادت الحرب العالمية الثالثة أن تقلع بين الغرب والاتحاد السوفياتي نتيجة لاختلاف العقائد، لولا أن سقط الاتحاد السوفياتي وامّحى عن خارطة العالم نتيجة لعوامل داخلية محضة.
وألم يقاتل المسلمون نصف العالم في القرنين السابع والثامن الميلادي نتيجة لاختلاف العقائد؟

[email protected]