لابد من وقفة طويلة عن الوضع العراقي ونحن نقترب من يوم 9 نيسان 200، يوم تحرير العراق. كانت الفرحة كبرى، واستنشق المواطنون لأول مرة نسيم الحرية بعد عقود من القهر الدموي، والتمييز العرقي، والتمييز الطائفي. فأين نحن اليوم؟ وإلى أين وصلنا؟

تركة خراب مثقلة بالمظالم والمآسي..
إنها تركة النظام الصدامي، من مقابر جماعية، وحروب أنفال وغازات، وسحق الحرية المذهبية والحريات العامة والشخصية، وحملة إيمانية شجعت على التطرف الديني واستغلال الدين لمآرب سياسية معادية للشعب. إنها تركة خراب فكري وثقافي وسياسي واجتماعي، وتشجيع الجريمة المنظمة بإطلاق سراح حوالي 70 ألف مجرم من محترفي الجريمة وتسييبهم في الشارع بلا شروط وذلك كجزء من مخطط quot;ترك العراق بلا شعبquot; في حالة الخطر على النظام.
لا يجب بحال من الأحوال نسيان تلك الحقبة الظلماء، المليئة بالآلام والجراح، وبالدم وتخريب العلاقات العائلية والنسيج الاجتماعية، وبالمقابر الجماعية وسراديب التعذيب حتى الموت. صحيح أن شعبنا يعاني اليوم من كل ناحية، وإن الخدمات قد تردت مرة واحدة، وإن عمليات الخطف والفدية، التي بدأت زمن النظام المنهار، قد تفاقمت واتسعت لتصبح التجارة الأكثر ربحا، ناهيكم عن الأغراض السياسية، بقدر ما يخص قوى الإرهاب. كما وصحيح قد صارت التفجيرات يومية بل وعلى مدار ساعات، وأحيانا تبيد الجموع مرة واحدة.
كل هذه المآسي والخراب الجديد لا ينبغي أن تطمس من الذاكرة جرائم أمس، لكيلا يذهب الضحايا هدرا، وكذلك لإدانة كل من يعيد اليوم ممارسات صدام تحت هذا القناع أو ذاك، من تعذيب وسجون سرية، ونزعة طائفية انتشرت حتى في صفوف القوات المسلحة الجديدة. إن الذاكرة العراقية، ذاكرة الشعب، يجب أن تظل متوقدة، تخليدا للشهداء، وأخذا للعبر والدروس.
وضعنا اليوم مقلق جدا، والعراق مهدد بالفتنة الكبرى وبالتفكك.
ليس هذا الوضع المتقهقر عن 9 نيسان مجرد فعل ميكانيكي لتراث صدام. كلا. فقد وصلنا لهذه الحال التعسة جراء أخطاء فادحة ارتكبها الأمريكان من جهة، وأخطاء القيادات السياسية وا لاجتماعية العراقية، وهذا من الجهة الأخرى.

الأخطاء الأمريكية:
كثر الحديث في مقالات كتابنا وفي الصحافة الدولية، وكذلك في أحاديث قيادات أمريكية مدنية وعسكرية، عن سوء التخطيط لما بعد سقوط صدام. كما كتبنا في الأيام الأولى عن مخاطر ترك حالات النهب والسلب بعد السقوط بلا أي عقاب أو إعلان حالة الطوارئ. وأذكر أنني والدكتور عبد الخالق حسين تدارسنا ذلك الوضع في حينه واتفقنا على أن توجهمجموعة من المثقفين العراقيين مذكرة مستعجلة جدا للرئيس الأمريكي مطالبة باتخاذ إجراءات سريعة وحازمة لوقف أعمال quot;الفرهودquot;، التي نظمها الصداميون، وشارك فيها كثيرون من الجهلة والمجرمين، وخصوصا من مدينة الثورة. وقد جرى بالفعل إرسال تلك المذكرة. ولكي نلخص الأخطاء الأمريكية نوجه النظر لمقال هام نشرته منذ أيام الصحفية الأمريكية ترودي روبين، المحررة في صحيفة quot;فلاديلفيا انكوايررquot;.إنها تقول إن الإدارة الأمريكية أخفقت في عمل أو تنفيذ استراتيجية متزنة لما بعد الحرب، ثم تبدي تقييمها كالتالي:
1 ndash; قلة عدد القوات برغم مطالبة الجنرالات بذلك بسبب تحديات ما بعد الحرب؛
2 ndash; عدم فرض النظام حال سقوط النظام السابق، وهذا ما شجع الإرهابيين وعصابات الإجرام على التوهم بأن الأمريكيين لا يستطيعون فرض السيطرة على بغداد. أما عمليات النهب الأولى فتقول quot; أشرف عليها بعثيون رغبة منهم في إشاعة الفوضى الشديدة وأملا في العودة إلى الحكم؛
3 ndash; حل الجيش quot;دون فصل بين قواته أو منحهم معاشاتquot;، علما بأن عددا كبيرا من الضباط لم يحاربوا عن عمد لا بأوامر من صدام. ولم يتقرر زمن بريمر عرض صرف المعاشات إلا بعد أسابيع. حول هذه النقطة ثمة رأي يرى أن الجيش كان محلولا أصلا مع دخول بغداد، فلا يمكن الحديث عن خطأ ما. أما رأينا، فهو أن قرار بريمر جاء وكأن الحل هو فعل أمريكي، كما لم ترافقه دعوات للجنود والضباط للعودة للثكنات مع فرز كبار المتهمين منهم بالانتهاكات؛
4- لا استراتيجية واضحة للتعامل مع كل الأطياف العراقية بلا استثناء. هنا تبالغ الكاتبة وكأن الموقف الأمريكي هو الذي دفع بأوساط من السنة للسلاح أو لدعم الإرهاب. ومعلون أنه لما توجهت دعوات للمشاركة في الانتخابات الأولى قاطعتها قوى سياسية ودينية تقول إنها تمثل سنة العراق العرب. ومن حسن الحظ أن فريقا واسعا منهم عاد للمشاركة في العملية السياسية؛
5 ndash; الاعتقاد بأنه ما أن يسقط النظام حتى يتحول العراق في فترة قصيرة إلى الديمقراطية. وهذه نقطة كتب عنها الكثير جدا؛
6 ndash; الفشل في فهم الدور التخريبي الهائل لإيران.
ونود أن نضيف رأينا في أنه كان مطلوبا بعد الحرب مباشرة إقامة حكم عسكري أمريكي بضعة شهور لفرض الأمن وحماية الحدود؛ أو الاتفاق مع القوى السياسية العراقية على تشكيلحكومة تكنوقراط قوية ومستقلة عن الأحزاب يكون لها رأي في انتقاء أعضائها ودور في مراقبة إجراءاتها.

معظم الأخطاء المارة راحت الإدارة الأمريكية تعالجها بجد منذ أكثر من عام، ولكن ليس كل شيء يعتمد على الأمريكان والقوات المتعددة الجنسية!

أخطاء القيادات العراقية:
ما كان ممكنا بناء الديمقراطية في سنة أو عامين، ولم تكن المهمة سهلة أبدا نظرا لتركات النظام الفاشي و لشراسة القوى الصدامية التي لجأت للعمل العسكري السكري، ولأن المحيط الإقليمي عموما معاد للديمقراطية في العراق، ولا سيما سوريا وإيران، ومنهما راحت تتسلل عناصر الإرهاب المنظم من مختلف الجنسيات العربية لتتحالف مع الصداميين برغم اختلاف الأهداف البعيدة. الهدف المشترك هو إعاقة التقدم ونشر الفوضى. لذلك فلا عجب أن يقوم النظام الإيراني بتقديم العون لكل من المليشيات المسلحة، ولا سيما جيش المهدي، ولعصابات الزرقاوي. غير أن كلل هذا لا يفسر عوامل الوضع المتردي الراهن لحد وقوع العشرات من المصادمات الطائفية بين مختلف الجماعات المسلحة من المذهبين. ولحسن الحظ لم يتغلغل طاعون الطائفية بعد لأعماق المجتمع، وهذا مفرح جدا.
إن الخطيئة الكبرى أولا هي الإصرار في مؤتمر لندن عشية الحرب على الأخذ بنظام المحاصصة الطائفية، وهذا جذر رئيسي لكل الأخطاء العراقية. ومن المفارقة أن زلماي خليل زادة، التي يتعرض اليوم لنيران ظالمة من جانب شخصيات الائتلاف، المدافعين بكل حمية عن التدخل الإيراني، هو الذي أشرف على مؤتمر لندن ووافق على شرط المجلس الأعلى حول الأخذ بالمحاصصة! لا عجب لنكران الجميل عند العراقيين ولا سيما عند الزعماء. زلماي يقول إن وزارتي الدفاع والداخلية يجب أن تقودهما شخصيات مستقلة غير حزبية وغير طائفية، وهذا ما طالبنا وغيرنا من الكتاب العراقيين ولعديد منهم من الشيعة قبل مجيء السفير للعراق. والأغرب تعييره بالأصل الأفغاني مع أننا جميعا لا نوافق على تعيير أي سياسي أو رجل دين بأصله الإيراني!. إن الائتلاف يعتبر هذا الطلب الذي هو لمصلحة العراق والعملية السياسية تدخلا وعدوانا على الشيعة وquot;حثا على الحرب الطائفيةquot;! أما فضح النظام الإيراني في تدخله الموجود وواسع النطاق، فهو الكفر عينه! وهو العدوان الأكبر على الشيعة. وقد كتبنا مرارا أن هذا الموقف لا يخدم الشيعة العراقيين، الذين كان صدام يتهمهم بطابور إيران ويسحق حقوقهم بهذه الحجة. ولكن لمن يوجه الخطاب؟ وكيف ينسون ما تعرض له معظم الشيعة العراقيين المهجرين لإيران من ظلم وتمييز؟!
أما الأطراف الكردستانية، فإن بعض كتابها هم أيضا يعتبرون كل نقد لموقف من المواقف السياسية الكردية هجوما وعداء للشعب الكردي. إن القيادات العراقية لم تعتد النقد، ناهيكم عن النقد الذاتي. وهذا موقف عام مع الأسف. إن مما ساعد على إيصالنالهذا الوضع المتردي جدا هو أن التحالف الكردستاني وضع كل ثقله في خانة التحالف quot;الاستراتيجيquot; مع الائتلافيين، مع أنه كان عليه أخذ المبادرة لتجميع كل القوى العلمانية الديمقراطية واللبرالية، وطبعا دون التخلي عن التعاون الوثيق مع المجلس الأعلى وأطراف الائتلاف. وهنا نشير لما أشير له سابقا ومرارا عن ترك القوى الديمقراطية واللبرالية الشارع لرجال الدين والتنظيمات المسلحة منذ اليوم الأول. وهذا موقف عزز محاولات الإسلاميين لتهميش تلك القوى المدافعة عن هدف المجتمع المدني والعلمانية وعن الأقليات الدينية وحقوق المرأة. ومن الأخطاء الكردية الفادحة الموافقة على الدستور الملئ بالمتناقضات والذي يخضع كل شئ لأحكام الشريعة.
إن تركات صدام لا تفسر لوحدها حالة الفوضى، ولا تجاوز المليشيات على حريات المواطنين الشخصية وعلى النساء السافرات، وعلى المسيحيين والمندائيين، ولا تبرر إعادة ممارسات التعذيب والسجون السرية! وليس الأمريكان هم من وضعوا الدستور، وليسوا هم الذين يغذون الطائفية، ويريدون اشتعال حرب أهلية طاحنة، كما يدعي الصدر، وحزب الله العراقي، والفضيلة، وغيرهم؛ وهم جميعا مدينون للقوات الأمريكية وتضحيات زهرة شبابها بحرية العودة من المهاجر، وأخذ النصيب الأكبر والأهم من السلطة. ولكن هو مرة أخرى نكران الجميل، ومغازلة الغرائز الحامية للشارع، والمزايدة السياسية.

ولنا مقال تكملة قادم للموضوع وهو كثير الجوانب.