هذا المصطلح شائع بشكل عادي ومألوف في الأدب السياسي، أي أدب التحليل السياسي (لعبة الدومينو) وقد تتبعت بعض المقالات والدراسات التي أوردت هذا المصطلح لأعرف إلى حد ما المقصود منه، ومجال تطبيقاته في هذا العالم، عالم اللعب السياسي، عالم الصراع السياسي من أجل القوة والمصلحة، وقد تساءلت مرة عن سر التسمية، وذلك بعد أن فقهت بعض ما تحمله اللعبة من معنى ومضمون، وقد كنت أتصور أن هناك (قالب) من الدومينو يكون حظ أحد اللاعبين، مهمته إرغام سد المنافذ على الآخر، مما يرغمه على السحب بدون رصيد، وقد تصورت هذا التصور لأني أصلا لا أعرف هذه اللعبة ولم أمارسها مرة واحدة في حياتي، بل أقرف منها. ولما عرضت فهمي المقارب هذا على أحد الأصدقاء صحَّح لي المفهوم، ذلك أن قوالب الدومينو هذه فيما إذا شكلتَ منها جدارا على منضدة اللعب، أي إذا صففتها بعضها إلى جانب البعض، ومن ثم حرَّكت أحد هذه القوالب، فسوف تتداعى بقية القوالب تباعا، وعندها فهمت اللعبة أكثر، وربما توصلت إلى بعض أسرارها الخاصة.
ماذا يعني المصطلح في عرف اللعبة السياسية؟
أن استعمال المصطلح في هذا المجال يتصل بمجموعة الدول المجاورة، حيث يؤدي سقوط أحدها على يد عدو إلى سقوط الباقي في يد ذات العدو ! حيث هناك تخطيط مبيت من قبل هذا العدو باتجاه هذا الهدف الاستراتيجي الذي يكون عادة ضخماً وخطيرا. وهكذا كان الكثير من رجال السياسة والعسكر الأمريكيين يتصورون أن سقوط الصين بيد ستالين سوف يقود إلى تهاوي كل الدول المجاورة لها بيد ستالين ! تماما كما أن سقوط أحد قوالب الدومينو في الجدار المتكون منها إلى تهاوي كل القوالب، وبالتالي، تهاوي الجدار نفسه.
في ضوء هذا التصور كان الأمريكان يعملون على الإطاحة بسلسلة من الدول المجاورة التي لا تخضع للسياسة الأمريكية من خلال الإطاحة بدولة من هذه الدول، أي حسب منطق لعبة الدومينو.
لم تلق نظرية أو لعبة الدومينو رضا كبيراً لدى الكثير من المخططين الأمريكيين، ويدللون على فشل اللعبة من خلال بعض التجارب الحية، فأن سقوط كوبا ــ مثلا ــ بيد الثوار لم يتتبعه سقوط الأنظمة المجاورة لها.
ولكن بقيت لعبة الدومينو فاعلة، ومؤثرة، وقد وجدت لها صدى حتى عند بعض المنظرين الحزبيين من حملة الاتجاه الثوري، فظنوا أن إسقاط نظام رجعي يقود حتما إلى سقوط الأنظمة الرجعية المجاورة، وبهذا كانوا يمنون أنفسهم بسلسلة من الانتصارات المتلاحقة بمجرد تحقيق نصر جزئي يتمثل بإسقاط نظام أو حكم لا يتفق مع مبادئهم الثورية، حيث سوف تتساقط الأنظمة المجاورة التي تحمل ذات الاتجاه، وذلك تباعا،كما هي قوالب الدومنيو !
أعتقد أن ممارسة اللعبة تتطلب قدرة من شانها أن توقف التداعيات عند الحاجة المطلوبة، فاللعبة جادة ومحددة الأهداف، وليست هي عملية فوضوية، كما أن أصحاب اللعبة والمؤمنين بها لا يعولون على مستحقاتها بلا زمن معتد به، أي يدخلون عامل الزمن في ظهور أثارها البعيدة، فليس من المعقول أن مبدعي هذه اللعبة يعتقدون أن عملية التداعي بهذه البساطة، بل هي الأخرى تحتاج إلى زمن، وإلى عمل داخلي وخارجي، كي تؤدي دورها بنجاح. وإذا كان سقوط أي قالب من قوالب جدار الديومينو يتسبب بسقوط الجميع فليس كذلك في حالة الدول المتجاورة، وعليه، أعتقد يجب اختيار البداية بدقة ماهرة، يجب اختيار النظام أو الدولة التي يسهل ضربها، والتي يكون لسقوطها انعكاسات سريعة ومؤثرة على دول الجوار أكثر من غيرها لسبب وآخر.
ولكن هل مجال لعبة الدومينو تقتصر على إسقاط الأنظمة بالمعنى المعروف؟
أم يمكن أن تستخدم على صعيد ثقافي وتربوي واقتصادي أيضا؟
يقولون أن مشروع بوش حول الشرق الأوسط الكبير أعتمد نظرية أو لعبة الدومينو، حيث تم اختيار العراق ليكون نقطة تداعيات كبيرة في المنطقة ! وبالفعل فان التغير في العراق لحقه تغيرات كبيرة في كل الدول المجاورة، فقد نشطت المعارضة، وحصلت تحولات ولو هامشية في مسيرة نظام الحكم، من أوضح معالمها الانتخابات الديمقراطية، واعطاء هامش من الديمقراطية هنا وهناك، وشيوع فكرة التغيير، وانتشار جمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان وغير ذلك.
إن اختيار العراق كان مدروسا، فهو مجاور لإيران، وهناك طوائف وقوميات كبيرة مضطهدة في العراق، وقوته العسكرية كانت متهاوية، والشعب العراقي فسيفساء قومية ودينية ومذهبية، فالتغيير يفجر ثورات ثقافية وحقوقية كبيرة وضخمة، والعلاقات بين سوريا والعراق كانت علاقة انقلابات عسكرية، ومؤامرات متبادلة، وتغيير النظام في سوريا قد لا يحمل مثل هذه الممكنات من التأثير على الدول المجاورة.
لست سياسيا، ولكن في تصوري أن لعبة الدومينو لعبة ذكية، ويمكن أن تُمارس بنجاح فيما كانت حساب اللاعب دقيقة وعليمة.
أن بوش الابن لم يكن بعيدا عن لعبة الدومينو في تحقيق مشروعه الذي عنونه بمشروع الشرق الأوسط الكبير، وحتى فكرة الفوضى الخلاقة ليست بعيدة عن هذه اللعبة الذكية كآلية في الصراع السياسي.

الحلقة الأولى

الثانية

الثالثة

الرابعة

الخامسة