هنالك عوامل كثيرة في الحالة الثقافية والسياسية في مصر الآن تدعو لتصور البعض، ربما كافتراض منطقي لطبيعة الأمور، أن الأقباط في مصر هم ظهير الليبرالية القوي، وأن مشاركتهم في الحياة السياسية كفيل بقلب موازين القوى الحالية، لترجيح كفة التيار الليبرالي، الذي يصارع رموزه الآن ضد التيار، دون مساندة جماهيرية تذكر، ويقع في هذا التصور الشرك كثير من رواد التنوير المسلمين، والذين تلجمهم الحيرة، متى اكتشفوا ما يتناقض مع ما تصوروه بديهية لا تحتاج إلى نقاش، وأتذكر على سبيل المثال خالد الفكر د. فرج فودة، وهو يشكو لي بحسرة صدمته مما تناقلته الجرائد والمجلات حينها، عن بيان مشترك للشيخ الشعراوي والبابا شنودة، يعلن أنهما معاً ضد العلمانية، في الوقت الذي كان فيه د. فرج فودة يقف وحده في مواجهة طوفان الإرهاب الكاسح، وفي مواجهة السلفية الدينية التي تستبعد الآخر وتكفره مهدرة دمه، أذكر أنني قلت له يومها أن الأمر أحزنني وأغضبني، لكنه لم يدهشني كما أدهشه، فهؤلاء هم الأقباط وهذه هي كنيستهم الأرثوذكسية!!
الأمر فعلاً لا يستدعي دهشة، فالأقباط مكون أصيل من مكونات الوطن المصري، وبالتالي فالنفور من الليبرالية من قبل الأقباط جزء من النفور المصري منها، ولا يكفي أن تكون الليبرالية هي طوق النجاة الوحيد للأقباط في مواجهة موجات التعصب الديني العاتية، لكي يغير الأقباط من عقليتهم وخطاب كنيستهم المتحجر عبر القرون الطويلة، ليسارعوا بالمناداة بالإخاء الإنساني الليبرالي، وأذكر في ذات الحديث في أول التسعينات مع د. فرج فودة أنني قلت له: لو كان الأقباط أغلبية في هذا الوطن، وتنادوا بأن المسيحية هي الحل، لوقفت أنا وقفتك، ولناشدت المصريين جميعاً مغادرة محطة التخلف التي أسرتهم لقرون ممتدة، ليركبوا قطار الإنسانية والحداثة، قبل أن تسحقهم عجلات التاريخ، ورغم مرور خمسة عشر عاماً على هذا الحديث، إلا أننا مازلنا عند ذات النقطة، مازالت ذئاب الكراهية تمارس العواء والعقر في جسد شعبنا، ومازال الأقباط يئنون ويتوجعون مما ينالهم جراء تفشي الأفكار المنغلقة على الذات، ويصرخون مستغيثين من آثارها، دون أن يفكروا في الحل الكفيل بخلاص الجميع، سواء فيما يتعلق بمشاكل الوطن الداخلية باختلاف مجالاتها، أو ما يتعلق بمشاكلنا مع العالم المتحضر كله.
ليس المتأسلمون وحدهم هم الذين يعادون الفنون والآداب، فلقد رأينا موقف الأقباط من فيلم quot;بحب السيماquot;، وكيف رفعوا القضايا عليه أمام المحاكم، رغم جودة الفيلم ورسالته الإنسانية الرفيعة، ولم يكترثوا أو ينتبهوا أنه يعيد الاعتبار المفقود للأقباط، بالاهتمام بهم كبشر يعيشون على هذه الأرض ولهم قضايا إنسانية ينبغي مناقشتها، كما تناقش قضايا أخوتهم المسلمين، والتي تناقشها الأفلام بجرأة كبيرة، ولقد كان موقف الأقباط من الفيلم عاماً، ولم يقتصر فقط على من رفعوا القضايا وبعض مشايعيهم، فالجميع أسرى خطاب الكنيسة الذي يحرض على الانعزال والاستعلاء على الآخر، ويعتبر النقد من الخارج حرب من عدو الله إبليس، والنقد من الداخل مروق وابتداع وهرطقة تقتضي الاستتابة أو الحرمان من رحمة الكنيسة.
إن انعزال الأقباط وتقوقعهم داخل الكنيسة لا يرجع فقط للتضييق على الممارسة السياسية في الوطن عموماً، رغم أن هذا عامل مهم في الأمر، ولا إلى الطرد المجتمعي للأقباط نتيجة لرواج فكر جماعة الإخوان المسلمين، رغم خطورة تأثير هذا الفكر، لكن بالأساس لأن خطاب الكنيسة يشكل الأقباط على هذا المنحى الانعزالي الاستعلائي، وإن كان يساق مغلفاً بعبارات عن المحبة والسلام.
حديث المحبة في خطاب الكنيسة القبطية الأرثوذكسية لا يأتي في سياق السماحية Tolerance ، لكنه يأتي في سياق آية: quot;أحبوا أعداءكمquot;، والآية في حد ذاتها رائعة، وهي خاصة بالتعامل مع الأعداء، لكن فكر الكنيسة الأرثوذكسية المنغلق والرافض للآخر يدرج الجميع ضمن تصنيف الأعداء، بالطبع هو لا يدعو إلى قتالهم، لكنه يضع حاجزاً سميكاً بين الإنسان الأرثوذكسي والآخرين، بداية من البروتستانت والكاثوليك، وحتى أتباع الكنائس الأرثوذكسية الأخرى، كالروم الأرثوذكس وغيرهم، بهذا تكون المحبة التي تتحدث عنها الكنيسة مجرد طلاء براق، يخفي تحته الجمود التعصب.
خطاب الكنيسة فعلاً يدعو إلى التسامح Forgiveness ، بعد أن يضع الأخر في تصنيف الأعداء، لكنه لا يعرف السماحية Tolerance ، التي تؤمن بتنوع الأفكار والرؤى بين البشر، وأن اعتقادي فيما هو حق لا يعني أن الآخرين على ضلال، وليس لهم إلا موقع الأعداء الذين ينالون مسامحتي لكرم أخلاقي، فالتسامح هنا يكون مظهرياً وهشاً وموقوتاً، والتاريخ يؤكد لنا ذلك، سواء في الحروب الدينية ومحاكم التفتيش في أوروبا، أو في الحروب العقائدية داخل الكنيسة الأرثوذكسية المصرية في العصر القبطي.
خطاب الكنيسة أيضاً يدعو إلى الانفصال عن العالم، ويلح على ذلك مستخدماً العديد من آيات الكتاب المقدس بطريقة غير صحيحة، لأن كلمة العالم من الممكن تفسيرها على أساس المجاز، باعتبارها تشير إلى الأمور الشريرة، وليس إلى الحياة الأرضية بصفة عامة، لكن على العكس نجد خطاب الكنيسة يلح على أن هدف المسيحي ليس هذه الحياة الفانية الشريرة، وإنما الحياة الأبدية في السماء، وأن العالم مليء بالشرور، وأن الكنيسة هي السماء على الأرض، وبالتالي على المؤمنين أن يلتصقوا بالكنيسة ليحتموا بها من شرور العالم!!
يحقق هذا الخطاب خوف القبطي بصفته (ابن الله) من الآخر، وتحاشي الاندماج معه باعتباره (ابن العالم)، كما يؤدي إلى تجنب القبطي لأي أنشطة سياسية أو اجتماعية في النطاق الوطني، ليقتصر نشاطه على الكنيسة، بصفتها المكان الوحيد في هذا العالم المبرأ من الشرور.
موقف الكنيسة أيضاً من قضية الطلاق والزواج معاد لحرية الفرد وحقه في تقرير مصيره، فهو يضع القبطي في قفص حديدي لا فكاك منه إلا بالموت، ويستند المتربعون على السدة إلى تفسير لآيات الكتاب المقدس يخدم أغراضهم في الإمساك بمصائر الناس بين أيديهم، فكلما اشتدت وكثرت الموانع والممنوعات كلما تعاظم سلطانهم، وكلما تصاغر الناس أمامهم، وصاروا كالحملان الوديعة، لا يتجهون إلا حيث تشير عصا الراعي.
مسألة تداول السلطة التي هي من صميم الفكر الليبرالي لا وجود لها في الكنيسة القبطية، فالقادة الذين هم من رتب الإكليروس مؤبدون في مواقعهم، وتدعو صلوات الكنيسة لهم بإلحاح بدوام جلوسهم على كراسيهم سنيناً طويلة وأزمنة هادئة مديدة، كما تدعو صلوات الكنيسة أيضاً للملوك والرؤساء بطول العمر، وأن يحنن قلوبهم علينا، وهي بهذا تربي القبطي على التصاغر والضعة، وانتظار أن يتحنن قلب الحاكم عليه، ومن الطبيعي أن تعادي الكنيسة الثقافة الليبرالية، مادامت تنشر بين أبنائها ثقافة الخراف.
معاداة الليبرالية إذن أصيلة في فكر وخطاب الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، فإذا ما أضيف إليها معاداة الليبرالية في الثقافة الوطنية المصرية عموماً، يكون أقباط مصر هم الأشد عداء لليبرالية، وإذا كان المصريون عموماً الآن في مأزق ثقافي مصيري، يتمثل في أن الليبرالية هي الحل الوحيد لمأزقهم الحضاري، في حين أنهم حتى الآن يستغربونها ويستنكرون ما يتلمسون من معالمها، فإن الأقباط مأزقهم أشد، وفكر الإخوان المسلمين يستشري طارداً إياهم من الساحة السياسية، ربما تمهيداً لاقتلاعهم من وطنهم الذي أمضوا فيه فقط سبعة آلاف عام!!
سوف ينقذ المسلمون المصريون إخوانهم الأقباط مما تدبره جماعة الإخوان المسلمون للوطن كله.
لكن من ينقذ الأقباط من أنفسهم؟!!
[email protected]
التعليقات