الحلقة الأولى / الثانية / الثالثة / الرابعة / الخامسة /
سليمان فيضي
عربي الارومة؛ عوادي النسب؛ رفاعي الصلة الروحية؛ تحدرت اسرته في الموصل الحدباء؛ولكن سليلها سليمان فيضي وجد مسيرة حياته تنطلق من البصرة الفيحاء ؛ فكانت مدينته التي ترعرع فيها وتنامى شبابه على جنباتها. فحصل من العلم القانوني والثقافة الادبية على ما اهله لان يفتح مدرسة ( تذكار الحرية ) عام 1908 ثم ليصدر في منتصف عام 1909 جريدته المعروفة ( الايقاظ) حيث نشر على صفحاتها مجموعة من مقالاته الوطنية الجريئة حتى احتجابها في نهاية عام 1910.بعد هذه المرحلة قام بجولة في انحاء نجد وسوريا ولبنان وتعرف على شخصيات بارزة فيها وكان على رأسهم الامير عبد العزيز آل رشيد بعدها؛حط ركابه في الاستانة حيث حصل على شهادة الحقوق؛ ثم عرج عائدا الى البصرة لينتخب نائبا عنها في مجلس المبعوثان الى حين انتهاء العهد العثماني واحتلال الجيش البريطاني للبصرة وتأسيس الادارة المدنية فيها بعد ئذ. في عام 1919اختير سليمان فيضي اول حاكم لمحكمة حقوق البصرة؛ ثم نقل الى عضوية استئناف بغداد وهناك اختير لتدريس مواد الاصول والصكوك والدستوري في مدرسة الحقوق اضافة الى منصبه القضائي الذي مكث فيه حتى نهاية عام 1922 حيث قدم استقالته مفضلا العودة الى البصرة ليمارس مهنة المحاماة والتفرغ للتأليف.
في عام 1930؛ طرحت الحكومة العراقية معاهدتها مع بريطانيا فشن عليها الكتاب ورجال القانون هجوما مدويا؛ وكان سليمان فيضي من ابرز من فند نصوصها المجحفة ونال منها في اكثر من مقالة؛ مما اعطى الحكومة الحجة في اسكات صوته وذلك باعتقاله بدعوى تشجيعه للعنف عن طريق مطالبته العلنية بالاضراب الشعبي العام.في عام 1935 تسنم الزعيم الوطني ياسين الهاشمي رئاسة الحكومة؛ فكان صوت سليمان فيضي من الاصوات الوطنية المؤآزرة القوية في مجلس النواب ؛ وبقي موقفه واضحا وصريحا حتى سقوط تلك الحكومة وحل مجلس النواب بأول انقلاب عسكري قام به اللواء بكر صدقي عام 1936.
كان سليمان فيضي اديبا بمعنى الكلمة؛ زاول كتابة المقالة؛ والنقد والقصة والمسرحية وجمع الحكم والامثال المشهورة.. الخ اضافة الى بحوثه القانونية وقراراته القضائية ولوائح المحاماة؛ وقد برهن فيها على كفاءة متجلية وابداع وحنكة؛ ناهيك عن محاضراته في الاصول والصكوك والدستوري في كلية الحقوق.
لقد ترك سليمان فيضي وراءه جملة من المطبوعات؛ يمكن ايجازها على الوجه التالي :
1 ـ الادبية : ــ التحفة الايقاظية ( وهي من ادب الرحلات)؛ الرواية الايقاظية ( مسرحية )؛ سر النبوغ؛ المنتخب من اشعار العرب؛ الف كلمة وكلمة ( في الامثال والحكم )
2 ـ القانونية : ـ الحقوق الدستورية؛الصكوك العدلية؛ شرح قانون احكام الصلح؛ اصول التبعات واحكامها في البصرة؛ القانون الاساسي لحكومات الولايات المتحدة الاميركية( ترجمة )
3 ــ كما طبعت بعد وفاته مذكراته ( في غمرة النضال )عام 1952؛ والبصرة العظمى عام 1965
4 ــ وما زالت هناك مجاميع مقالاته وخطبه ولوائحه ومحاضراته ومداخلاته النيابية في خزائن التراث؛ تبحث عمن يرفع عنها اكداس الغبار ويفتح صفحاتها امام الباحثين.
ان سطورا مختارة من احدى مقالاته الشهيرة (الحرية ) ستعطي انطباعا جليا عن اسلوبه الادبي وقدرته في التحليل الموضوعي؛ كان قد نشرها في عام 1909في جريدته ( الايقاظ) فأثار الانتباه اليه في وقت لم يكن يجرأ كثير من الكتاب على التقرب من مثل هذه المواضيع الحساسة : قال فيه (الحرية؛ توجب رفق الحكومة بالرعية وتستوجب محافظة حقوقها وذلك اتباعا على ( كلكم راع و.... ) والاعتناء بالاسباب الموجبة لرفاهها ولحفظ مالها ولزيادة ثروتها والاصغاء التام لافرادها عند شكاياتهم او عرض مظالمهم او بين الافادات لاستخلاصهم من الاذى والظلم. والمساواة هي ان يكون الغني والفقير والكبير والصغير والوزير والحقير والمسلم وغير المسلم في الحقوق الشخصية سواء لا فرق بينهما وفي سائر الاحوال بمقتضى التطبيق لاصول التربية والاداب والعرف العام مثل احترام الصغير للكبير ورعاية الكبيرللصغير والتجنب عن الخطوات المغايرة للآداب المشروعة والنظامات الموضوعة مما يلزم ان يعرف كل واحد مقامه.... الخ والعدالة ــ
هي نمو شجرة اسمها الحرية واغصانها المساواة وورقها الاتحاد واصلها مغروس في ارض الاخوة تشرب منه ماء ا لطيفا نابعا من العين المسماة بالقانون الاساسي... وهي محتاجة الى اناس تقطف ثمارها
مصطفى علي
قرأت له كثيرا؛ وقرأت عنه اكثر؛ ولم اتعرف عليه شخصيا؛ الا في عام 1966. ففي تلك الفترة كنت اكتب واقدم عملا دراميا وثائقيا للتلفزيون بعنوان ( نوابغ الفكر العراقي )؛ وكان هذا اللون من الابداع الادبي؛ قد استقطب شرائح واسعة من الشعب العراقي؛ ونال تقدير الصحافة والنقاد بشكل لم يسبق له مثيل ؛ وكان من بين النوابغ الذين خططت لتقديمهم الشاعر الكبير الراحل معروف الرصافي؛ ولما كان هذا العمل الجاد المضني يتطلب الاتصال بالاحياء من الذين عاصروا الشخصية او كتبوا عنها او صاحبوها؛ فاصبح لزاما علي ان التقي بعدد ممن عرفوا الرصافي عن كثب؛ ومن بينهم راويته والباحث بأدبه وشعره وسيرة حياته؛ الاستاذ مصطفى علي؛ فكان ان عقدت معه لقآءات عده في بيته في بغداد الجديدة؛
ومع ان الامراض قد نالت منه؛ الا انه ضخامة جسمه وبشاشة طلعته؛ وقوة ذاكرته؛ ما زالت كما وصفه اصقاؤه الخلص؛ لقد كان متواضعا في اطار الكبرياء؛ وفكها في مبسم الجدية؛ وبسيطا في ملبسه وسكناه؛ لذا فلم يأخذ المقام مني غير دقائق حتى اشعرني بانني فرد من الاسرة؛ فانطلقت معه في الحديث عن الرصافي ناسيا الاسئلة التي اردت طرحها عليه؛ فقد توسع معي في مختلف جوانب حياة وادب ذلك الشاعر المحلق؛ بحيث غطى على كل ما اردت معرفته. بعد تلك الجلسة؛ اشتدت اواصر المودة معه؛ وتعرفت على شخصيته الوطنية؛ بدءا من مسيرة شبابه الاولى حتى المراحل الاخيرة من لقاءاتنا.
في شبابه المبكر؛ انخرط في سلك التعليم بعد تخرجه من دار المعلمين الابتدائية فجود فيه وابدع وخلق طرازا جديدا في التعامل مع التلاميذ بحميمية تربوية لم يألفها اؤلئك البراعم من قبل؛ فقد كان لهم اخا كبيرا ومرشدا ومهذبا؛ ولعله من اوائل المعلمين الذين فتحوا ابواب المعرفة الخارجية اضافة الى المنهج الدراسي المقرر. بل انه سعى لتزويدهم بالكتب القريبة من اعمارهم؛ ثم ليجعل منها مادة نقاشية في الدروس اللاصفية
في ذات الوقت عمل مصطفى علي في الصحافة منشئا وكاتبا من خلال انخراطه في اول تجمع ماركسي وطني تقدمي في العراق في بداية العشرينات بقيادة الشخصية ا البارزة ( حسين الرحال ) والذي اصدر مجلة نصف شهرية اطلق عليها اسم ( الصحيفة )؛ فعلى صفحات هذه المجلة برز اسم مصطفى علي؛ ولما اغلقت الصحيفة ابوابها؛ انشأ هو ( المعول ) في حين ظل يكتب مقالاته وقصائده في صحف مهمة كالاستقلال والعالم العربي وليلى وغيرها.. وكانت مقالاته تنصب على ثلاثة محاور اساسية شأن بقية زملاء مجموعته : مجابهة الاحتلال البريطاني على مختلف الاصعدة؛ اسناد الطبقات الكادحة وبخاصة التنظيمات العمالية؛ الدفاع عن حقوق المرأة بصيغة عامة؛ لا حصرها في السفور والحجاب وحسب. وفي هذه المحاور الثلاثة كان يشد من ازر شخصيات فكرية وعمالية ونسوية عديدة تتبنى تلك المواقف؛ كمحمد سليم فتاح وعوني بكر صدقي ومحمود احمد السيد وعبد القادر اسماعيل؛ وقادة الحركة العمالية محمد صالح القزاز وحسن العايش و محمد مكي الاشتري؛ والقيادة النسوية التي كانت تتمثل بامينة الرحال واسماء الزهاوي وحسيبة جعفر وبولينا حسون.وجميلة الجبوري وماجدة الحيدري.
في تلك المرحلة العصيبة من النضال السياسي نقل مصطفى علي من التعليم الى وظيفة كتابية في مجلس الاعيان في بغداد، فابتهلها فرصة راودته كثيرا سابقا؛ حيث التحق بكلية الحقوق منكبا على دروسه بمنتهى الجدية حتى تخرج فيها عام 1929 ليعين في وزارة العدل ويتنقل في دوائرها المختلفة ؛ الى تاريخ ترشحه وانتخابه نائبا عن بغداد عام 1932.
ولما حل المجلس بعدئذ؛ مارس المحاماة لاكثر من ست سنوات؛ ثم عاد الو الوظيفة العامة في وزارة العدل؛ حيث اصبح مدونا قانونيا؛ ثم قاضيا في محكمة استئناف البصرة؛ فنائبا لرئيسها؛ ثم رئيسا للمنطقة العدلية في ديالى؛ فمفتشا عدليا حتى عام 1958؛ حينما اختاره الزعيم عبد الكريم قاسم وزيرا للعدل في حكومة ثورة 14 تموز المجيدة.
لقد كان مصطفى على في مختلف مناصبه القضائية؛ ذلك الاديب الذي اعتمد على مصادر اساسية استند اليها في تميزه وابداعه المهني وهي : حصيلة ضخمة من المعلومات التاريخية والشعرية والفقهية عن عدد كبير من قضاة السلف البارزين الذين حاولوا جاهدين ان يكون العدل اساس قراراتهم؛ اما الثاني فقد كان الموهبة العالية التي تمتع بها ولفتت الانظار الى ادبه ونصوع بيانه؛ والثالث بالطبع المصدر القانوني الذي تشبع به ونهل منه واستوعب اطرافه؛ ان هذه الركائز مجتمعة كانت اعتماده فيما تصدى له من قضايا؛ وعالج من دعاوى؛ اثناء ممارسته القضاء مباشرة او اثناء التعامل مع الاجهزة العدلية المنفذة حينما اصبح وزيرا للعدل لثلاث سنوات متتالية حيث استطاع ان يحقق بعض المطامح التي كانت تراوده وهو على منصة القضاء.
لم يكن عطاء مصطفى علي الادبي مقتصرا على الشعر والقصة والنقد والمقالة السياسية وحسب؛ بل انصب بالدرجة الاولى على البحث الدؤوب الشامل في كل ما يتعلق بحياة احد قمم الشعر في العراق المعاصر الا وهو ( معروف الرصافي ) فقد نشر كتبا تناولت سيرة حياته ومؤلفاته النثرية والشعرية اضافة الى دراسة ديوانه الضخم وشرحه بصيغة حديثة دقيقة تناولت الشرح النفسي والنقدي واللغوي المعجمي اضافة الى الغوص في المعاني والمباني مع التأكيد على مناسبة كل قصيدة وخلفية احداثها والهدف الذي رمى اليه الرصافي من نظمها.... وقد تطلب هذا الانجاز الهام تواصلا مستمرا قضى فيه سنوات طويلة من عمره.
ومن مؤلفاته ايضا ؛ مجموعة من القصص الواقعية التي احتواها كتابه (جرائم مرت امامي ) والتي تتحدث عن جرائم نظرها بصفته القضائية؛ و( هامش السجل ) وهو كتاب احتوى على جزء يسير من مقالاته التي نشرها في ابرز الصحف المحلية التي صدرت في العشريتات والثلاثينات من القرن الماضي حيث غلب على تلك المقالات ــ كما اسلفنا ــ التحرر والانعتاق من التقاليد البالية والنظرة العصرية المتطورة؛ كالمناداة بالسفور؛ وحرية الرأي؛ والتصدي للمحتل؛ والدفاع عن الطبقات الكادحة... الخ؛ ولعل محاضراته التي القاها تباعا على طلبة الدراسات العليا بجامعة الدول العربية بعنوان ( معروف الرصافي ) والتي صدرت في كتاب مستقل بعدئذ؛ خير دليل على عمق رؤيته وتحليله وسطوع واشراق بيانه.
ومصطفى علي بعد هذا وذاك شاعر مجود؛ ومصور بارع اللقطات؛ نشرت له الصحف عددا وفيرا من قصائده؛..... ولعل من اكثرها شهرة وتداولا قوله حينما التحق بدورة الضباط الاحتياط وهو يخطو نحو الاربعين من العمر : ــ
ودعت عقلي وآرآئي وتفكيري وسرت طوع عريف الجيش عاشور
لولا السياسة؛ ما ابصرت لي شبحا ولا رأيت بزي الجند تصــــــويري
ومن وصفه الابداعي في مجلس خاص قوله :
كم سهرنا نلهو بمجلس أنس والدجى فوقنا يمد رواقه
مجلس عمه الصفاء وساد الود فيه وجملته الطلاقـــــــــه
نسرق الانس من عيون زمان شارد اللب لايرى سراقه
قد أمنا غوائل السود طرا ونسينا من دهرنا ارهاقه
واجتلينا من مطلع الشمس نورا فاق اشراق كأسنا اشراقه
ويستطيع الذين يرغبون بدراسة ما خلفه مصطفى علي من نتاج؛ ان يتجهوا صوب المراجع الاساسية التالية :
1 ـ تقارير مديرية معارف البصرة للفترة التي عمل فيها معلما ثم مدرسا 2 ـ خلاصات نقابة المحامين عن عمله في مهنة المحاماة 3 ـ محاضر مجلس النواب عن فترة نيابته عن بغداد.4 ـ اضبارته الشخصية في وزارة العدل 5 ـ مجموعة مقالاته المنشورة في صحف البصرة وبغداد من عام 1923 والتي لم يحوها كتابــه ( هامش السجل ) آنف الذكر 6 ـ انجازاته كوزير للعدل في حكومة ثورة 14 تموز الخالدة.
في نهاية السبعينات من القرن الماضي اتيحت لي الفرصة لان ازوره مع الصحفي الكبير عبد القادر البراك؛ فوجدته مهدم الجسم؛ وقد تلاشى بصره؛ فتوقف عن القراءة والكتابة الذاتية؛ وراح يستعين بافراد اسرته لمده بالعون في مجال هو الاقرب الى نفسه وادبه الا و هو عالم الحرف الذي عشقه وذاب هياما فيه.
وسيبقى مصطفى علي أديبا وقاضيا رمزا من رموزنا الوطنية لايمكن للتاريخ الا ان يشير اليه بكثير من الفخر والاعتزاز والاحترام.
التعليقات