-1-

مرت قبل أيام، الذكرى 54 لقيام الثورة المصرية 1952. وتاريخ عبد الناصر فقط، هو تاريخ هذه الثورة. فكان عبد الناصر هو الثورة، وكانت الثورة هي عبد الناصر كما يقول لنا دائماً مؤرخو هذه الثورة، وعلى رأسهم حسنين هيكل، السادن الأكبر للمعبد الناصري، والحامل الوحيد لمفاتيح خزائن أسرار هذه الثورة.
وعبد الناصر ، حاكم جاءت به الصُدف من صفوف العسكر إلى صفوف السياسة ثم إلى قمة الزعامة السياسية العربية المحبوبة، وهي من أهون الطرق في العالم العربي للوصول إلى الزعامة، في ظل شارع عربي أهبل، وغبي، وسريع الانفعال، ورأي عام عربي جاهل وسهل القيادة بالعصا أو بالطبلة، لا فرق بينه وبين أي قطيع من الأنعام، وفيما لو علمنا أن حافظ الأسد كان زعيماً رغم المجازر التي أقامها، والقذافي كان زعيماً رغم الأموال الطائلة التي أهدرها في الإرهاب، وصدام حسين كان زعيماً رغم كل المذابح التي ارتكلبها في حق الشعب العراقي، وكان هؤلاء جميعاً أقرب إلى البلطجية وقطّاع الطرق منهم الى الزعامة السياسية. وكان شأنهم كشأن أي خليفة أموي أو عباسي، أو سلطان عثماني، أو حاكم مملوكي، اغتصب المُلك، وخطف الأوطان، وسرق المال العام، ونصب المشانق للمعارضة، وإثارة الحروب العربية ndash; العربية، والعربية الإسرائيلية، دون استراتيجيات واضحة، وعملية، وواقعية.

-2-
كان عبد الناصر حاكماً عربياً مخلصاً وشريفاً ونظيفاً، ولكنه كان في الوقت نفسه حاكماً أحمق، في كافة القرارات السياسية التي اتخذها بدءاً بتأميم قناة السويس وحرب 1956 مروراً بقرار الوحدة المصرية ndash; السورية، وقرار ارسال الجيش المصري إلى اليمن، الذي كان واحداً من أهم أسباب نكبة وهزيمة 1967 وانتهاءً بقرار غلق مضائق تيران وانهاء مهمة القوات الدولية، وقيام حرب 1967 التي انهزمت فيه أكبر ثلاث جيوش عربية مجتمعة (مصر وسوريا والأردن).
في ذلك الوقت، لم يكن أحد يجرؤ على نقد سياسة عبد الناصر الوطنية. بل إن التأييد الشعبي العربي العارم لعبد الناصر كان يزداد كلما ازدادت خسائر هذا الزعيم وهزائمه. كذلك كان الحال داخل سوريا بالنسبة لحافظ الأسد فيما بعد، وداخل ليبيا بالنسبة للقذافي، وداخل العراق وخارجه بالنسبة لصدام حسين الذي كان علامة مميزة في عدد الانكسارات والهزائم والخيبات وفي عدد المؤيدين والمصفقين والمادحين والعشّاق كذلك.

-3-
كان العقل العربي في ذلك الوقت ndash; وما زال حتى الأن ndash; مغيّباً، أو معتقلاً، أو مصادراً ، أو مشلولاً. وكان الشارع العربي مُنساقاً إلى مجموعة من الشعارات والتصريحات والخطابات العنترية، التي يطلقها مجموعة من الصحافيين، والكتّاب، والإعلاميين المهووسين، أو المغيبين، أو الكذابين ، أو المزورين ، أو المغفلين، الذين لا يقرأون غير أبجدية الأنظمة، ولا يحفظون غير كلمات قواميس الزعماء.
ولو ألقينا نظرة اليوم على كل ما تحقق من كل ما مضى من quot;نضالquot;، و quot;كفاحquot;، و quot;جهادquot;، منذ ما يزيد على نصف قرن، لوجدنا أن ما تحقق هو مزيد من الكوارث والمصائب والنوازل والخيبات. وأن الوطن العربي بكل امكاناته البشرية والطبيعية والمالية الكبيرة، ما زال في أسفل سلم الرقي البشري، ولا يوجد تحتنا غير الصحراء الإفريقية، كما قال تقرير التنمية البشرية للأمم المتحدة.
لقد حارب عبد الناصر اسرائيل، وتلك كانت شجاعة وبسالة وذود عن حياض الوطن ومحاولة استرداد لأرض ولكرامة وحق وسيادة وشرف الأمة، كما قيل في ذلك الوقت. ولكن هل القرارات السياسية الخرقاء والحمقاء استطاعت أن تسترد أو تحقق ولو جزءاً بسيطاً من كل ما قالته الشعارات، ونادت به الخطابات، ووعدت به البيانات، وألقت به العنتريات، أم أن السياسة الواقعية العقلانية، وإن كانت مُرّة مرارة الحنظل، وكريهة كراهية طعم العلقم، هي التي استردت الأرض والحق، وبسطت السيادة، وأعادت للأمة كرامتها وشرفها وأرضها، ودفعت الأمة للتوجه نحو تنميتها، وازدهار اقتصادها؟
فما حال مصر اليوم لو كانت ما زالت في حالة حرب مع اسرائيل؟
وما حال الأردن لو كان ما يزال في حالة حرب مع اسرائيل حتى الآن؟

-4-
اليوم يتكرر الفيلم نفسه في لبنان .
السيد حسن نصر الله وقيادة حزب الله، ليسوا خونة، وليسوا جبناء، وليسوا حكاماً فاسدين، وليسوا لصوصاً، ولكنهم سياسيون حمقى!
هم شجعان ومخلصون، يسعون إلى تحرير أرض، واسترداد حق، ولكنهم حمقى!
والسياسيون الحمقى، هم من أخطر السياسيين جلباً للكوارث، وانزالاً للمصائب على الأوطان والأبدان.
فالحروب العالمية الكبرى، وما ترتب عليها من كوارث انسانية فظيعة،لم يُشعلها غير الحمقى من القادة السياسيين المخلصين والمحبين لأوطانهم وشعوبهم.
هتلر وموسوليني بطلا الحرب العالمية الثانية، ومن قبلهما نابليون، كانوا أعظم الأبطال في التاريخ الحديث، وأخلص الزعماء لبلدانهم، مثلهم مثل عبد الناصر وحسن نصر الله ، ولكنهم في الوقت ذاته كانوا أكبر السياسيين الحمقى الذين جروا على أوطانهم وشعوبهم أكبر المصائب وأخطر الكوارث، فدمروا أوطانهم، وشردوا شعوبهم. وسر حماقة كل هؤلاء، أنهم كانوا ديكتاتوريين، يتخذون قرارات فردية وليست قرارات مؤسساتية شرعية.
قرارات فردية نابعة من غرائزهم وعواطفهم، وليست من عقولهم.
قرارات فردية نتيجة لمعادلات سياسية خارجية، وليست نتيجة لمصالح وطنية خالصة.
قرارات فردية نتيجة لمكائد سياسية، وليست لدوافع ذات فوائد سياسية.
قرارات فردية لاستدراج مزيد من تصفيق الجماهير، ومديح مزيد من الأقلام، والأصوات، الإعلامية.
قرارات فردية تلبي حاجة الناس فيما يطلبون ويريدون، وليست فيما يحتاجون.
وكل زعيم جماهيري ndash; لا مؤسساتي - يرهن قراراته لما تريد وتطلب الجماهير، لا لما تحتاجه. فهو سجين غرائز هؤلاء الجماهير، وهو بالتالي أول من يفتح أبواب الجحيم لحرق هذه الجماهير، وتدمير مستقبلها ومستقبل أبنائها.
فهل كان السيد الُمطاع حسن نصر الله، الديكتاتور العربي المخلص الجديد، صاحب القرار المصيري الفردي الواحد الأحد، الذي لم يستشر فيه المؤسسات اللبنانية أو العربية، والذي فرض حرباً على أهله وعربه ومسلميه، دون سابق انذار، أو تحضير، أو استعداد مسبق، سيما وأن العالم العربي بعد عام 1979، وبعد عام 1993، وبعد عام 1994 عاش مجتمع السلام، وليس مجتمع الحرب؟
لقد أصاب بعض الإعلاميين العرب المهووسين عندما شبهوا حسن نصر الله بعبد الناصر.
انه حقاً شبيه بجنون عبد الناصر وعننرياته، التي يخفيها تحت هذه اللغة الرقيقة الهادئة، وهذه الابتسامات المرة.

-5-
السيد حسن نصر الله الآن في عُرف 99 بالمائة من الجماهير العربية، هو بطل الأمة وزعيمها ومحررها، حسب استطلاعات بعض الفضائيات العربية.
حسناً.
ولكن ما هو مكان حسن نصر الله، بعد أن تسكت المدافع، ويتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وينام العرب في عسل الإعلام العربي الزائف والجبان، ويستيقظوا على بلاطة، ويأتي وقت الحساب؟
أم أن العرب أمة لا تُحاسب، ولا تُعاقب، كباقي الأمم الحرة؟
فمن الذي حاسب وعاقب من قبل عبد الناصر على هزائمه، وحافظ أسد على جرائمه، والقذافي على مغامراته، وصدام حسين على آثامه، وحكاماً آخرين على سرقاتهم وفسادهم وطغيانهم وفشلهم؟