نقصد بالمثقف منتج الأفكار، الذي يخلق ويؤسّس لرؤى وتصورات، المفكر، والفنان، والشاعر، والمخرج، والقاص، والسياسي الجاد، والناقد، والباحث، والصحفي، ولأننا لا نتقيد بتعريف جامد، ولأننا بفعل المنظور الحيوي للإسلام تجاه الحياة، نتعامل مع الواقع بمساحته العريضة، ولأننا جزء من هذا الكيان (البشري ـ العقدي) الذي أصطبغ بدم مباح على مدى زمن يستوعب مئات الأجيال لا لسبب منطقي، ولأننا جزء من كيان تشرَّب بروح محمّد المشرقة بجمال الإنسان، وبروح علي المفتونة بالعدل، وبروح السجاد المشتعلة بنور التسامح، وبروح الحسين المتألقة بمعاني التضحية من أجل القيم... لأننا جزء من كيان (بشري ــ عقدي) تمخّض عن معاناة علمية ودموية وفكرية وسياسية وأخلاقية... ولأن منطق العلم الاجتماعي يتجاوز التعريف المحدود، التعريف الجامد... بسبب كل هذه المقتربات نمدّ بمصطلح المثقف الشيعي ليشمل كل شيعي يحمل رؤية، شريطة عدم اصطدامها بثوابت الدين الحنيف، وعدم انطوائها على نزعة تكفيرية عدوانية، فإننا جزء من التاريخ العام للإنسانية، لا ندعي أسبقية على أحد، كما هي فلسفة التكفيريين، الذين حصروا حق الحياة بآحاد من البشر . ولا نكتم حقيقة نفتخر بها، ذلك أن المسلم الشيعي تميّز بالإبداع، قراءة للواقع الفكري و الثقافي و الفني في العراق ولبنان وسوريا والبحرين و الكويت تبدي هذه الحقيقة ساطعة.
المثقف الشيعي ينتمي إلى هذا الكيان (البشري ــ العقدي) بشكل عام، ملتحم بالعالم في ضوء قيم السماء كما هي منظومة في أسفار المسلمين المقدسة، وفي مقدمتها القرآن، يتعامل مع الآخر بميزان الأخوة في الدين أو النظارة في الخلق كما ورد عن علي بن أبي طالب.
هذا المثقف ـ وبلا تفصيل ــ عانى من القمع، عانى من التهميش، عانى من الرفض، ليس لسبب منطقي سوى هذا الانتماء، سوى هذا التاريخ الموروث الذي نعتبره رحمة، هذا القمع ليس بدعا في زمن الحكومات الوطنية، بل هو وريث تاريخ معقد، تاريخ ممتّد، وذلك كجزء من عملية حذف مستمرة، لن تقف لحظة واحدة، أما بالقوة أو بالفعل، مختمر في المخفي من ذات الآخر (الأخ العَقَدِي)، يظهر ويشتد في أي مفارقة زمنية تخالف المألوف عبر هذا التاريخ الذي يسمونه تاريخ الإسلام!
هذا المثقف الشيعي يعيش مستويات مخيفة من الغربة، من الاستلاب، من العزلة الداخلية، من القهر الخفي... كان وما زال غريبا عن السلطة، يخافها، يخشى سطوتها، يخشى شرطها، أوراقها، دروبها، ينتمي إليها وفي داخله هاجس الطرد، هاجس القتل، هاجس المراقبة، فهو شيعي!
هذا المثقف الشيعي عانى غربة قاسية في ظل فهم خاطئ لمعنى الدين الحنيف، بسببه أهمل، وضيِّع، وغيِّب، لأنّه يقول شعراً وهو ممِّا يُلْهي، ولأنّه يحمل في يده فرشاة يخطِّط بها على الخامات الميتة تقاسيم الأحياء وذاك مشكل، ولأنّه يخرج على المسرح يلوِّح بشخصية (منسوخة) وتلك كذبة، ولأنه يمارس الدعوة إلى الحرية وتلك لعبة شيطانية لا ندري مصيرها... فكان المثقف الشيعي نهبا لذاك اليسار وذاك اليمين!
هذا المثقف الشيعي ــ بشكل عام ــ مجموعة نقاط تفصل بينها مسافات من التردد والقلق والحيرة والتمزّق والتشرذم، فإمَّا يضحِّي بالحياة الساخنة بالحضور الحي، الحضور ذي الفاعلية في توجيه التاريخ، يركن إلى النسيان، نسيان التاريخ، وإمَّا ينتمي إلى دوائر التضحية الصارخة، التضحية من أجل التضحية، وإمّا ينساق مع تيار الحياة الكسولة، وإمّا يتحول إلى مثقف سلطة تنتقم من أهله وطائفته قبل أن تنتقم من أعدائها في الشرق أو الغرب أن كان لها عدو هنا وهناك!
ويبقى انتماؤه لطائفته مجرد عنوان، رغم أنّ هذا العنوان هو سبب المأساة.
تتميّز غربة المثقف الشيعي بطابع التغطية الشمولية لكل أبعاد قدره الوجودي، من علاقته بذاته المنكسرة بين يدي مصادرة سابقة محكوم عليها بالثبات مهما كانت الأدلة المضادة قوية دامغة، ومن علاقته بتاريخ حاقد مشوّه مكذوب يقرأه رغماً عنه، ومن علاقته بسلطة نافية قاهرة، ومن علاقته ببعض رموزه الروحية التي نسته وتجاهلته عن قصد أو عن جهل، ومن علاقته بمعرفة مستلبة يتغذى عليها من حيث لا يشعر (الله أرزقنا الهم والفقر وارزق أعداء آل محمد الغنى والولد!)، وهي مكذوبة على إمامنا الصادق حتما.
إنّها مجرّد بداية!
وفي هذه الأيام حيث تهاوت الحدود بين الثقافات، وحيث يستعر المشهد الإنساني بالخبر من أقصى المعمورة إلى أقصاها، وحيث تجتاح ثقافة الفرد العالم، وحيث تضج الحناجر البشرية بأنشودة الديمقراطية، وحيث تتناوب الأفكار لتكسح بلادة دكتاتورية الأفكار والحكم والتسيُّد الموروث، وحيث تنتشر ثقافة السوق الحر... في هذه الأيام ينتبه المثقف الشيعي إلى ذاته، ينتبه إلى حقه بالحياة، وحقه بالصوت الذي يعبر عن هذه الذات. وللحقيقة والتاريخ، وبالتفاعل مع هذه الحركة الكونية الهائلة، كان لبعض علماء الدين الشيعة الكبار دور رائد في تحفيز هذه الذات الجريحة، لكي تدخل ساحة التاريخ بوعي وبصيرة.
فإن الدعوة إلى التحرر والحرية، وتكريس مبدأ الانتخابات، والتوكيد على وحدة الأوطان، وتأسيس مبدأ الأخوة الدينية، والوقوف في وجه الطغيان المادي، ونشر ثقافة التسامح، ورفض الحكم الفردي المتسلِّط... إن هذه الثقافة العريضة التي تبناها بعض علماء الشيعة الكبار، خاصة في العراق في ظل هذا التحول الكبير... هذه الثقافة بالتفاعل مع حصيلة التطورات العالمية على صعيد السياسة والفكر والفن كان لها أثر كبير على تحفيز هذه الذات الكسيرة، نقصد المثقف الشيعي، لتنخرط في ساحات الموقف الأصيل، الموقف الذي لا يفرط بالذات، ولا يفرط بالتاريخ، ولا يفرط بالانتماء الروحي...
بدأ يفكر بذاته، ذاته الموضوعية، بدأ يراجع محنته، بدأ يتساءل عن سبب محنته، عن سبب معاملته مواطنا من الدرجة الثانية، بدأ يجول بنظره في حزام البؤس في مدينة بيروت، في تلك ألأكواخ البائسة في جنوب لبنان، بدأ يجول بنظره في أحياء مدينة الثورة في بغداد، بدأ يقرأ أحياءه الطينية في البحرين، بدأ يتساءل عن سبب فقره المدقع في السعودية وهو أبن المنطقة النفطية...
بداية...
ولكن ليس كل بداية موفقة حتى وإن سطعت، حتى وإن شرعت تفرض نفسها بقوة، فإن حركة التاريخ ليست عشوائية، وبدون رعاية للبدايات الواعدة تٌقتل في مهدها...
يتبع