في الخامس عشر من تموز الماضي دخلت (الحركة الآشورية السورية) عامها الخمسين، ممثلة بـ(المنظمة الآثورية الديمقراطية) أقدم الأحزاب الآشورية السورية وأحد فصائلها الرئيسية، بادر الى تأسيسها مجموعة من الطلاب الآشوريين، عام 1957 في ريف الجزيرة السورية، قادتهم عواطفهم القومية الممزوجة بنزعة دينية مسيحية، وغالباً بردة فعل على الأحزاب والحركات القومية الأخرى في المنطقة( عربية وكردية)، من غير أن يكون لديهم رؤية سياسية مستقبلية واضحة. ترافق ميلاد المنظمة الآثورية مع انتشار الأفكار اليسارية والثورية وموجة المد القومي في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وكانت قد تميزت تلك المرحلة بزحف أبناء الريف والطبقات الشعبية على الأحزاب، اليسارية منها والقومية، خاصة حزب البعث الحاكم نظراً لما يحققه من مكاسب ومنافع لأعضائه، وهو ما بات يعرف بظاهرة (ترييف السياسة) التي اجتاحت الحياة السياسية السورية.هذه الظاهرة بما حملته الى (المجتمع السياسي المدني) من قيم وثقافة اجتماعية تقليدية تتعارض مع قيم الليبرالية وثقافة الديمقراطية، أجهضت إرهاصات الفكر الديمقراطي الليبرالي العلماني التي برزت بين أوساط النخب السورية نتيجة احتكاكها وتأثرها بالثقافة الديمقراطية والأفكار الليبرالية الغربية إبان الانتداب الفرنسي / البريطاني على المنطقة، كما أنها شكلت لاحقاً أحد العوامل الأساسية في تراجع دور الأحزاب في تطوير وتفعيل الحياة السياسية والفكرية في سوريا.وما يميز (المنظمة الآثورية الديمقراطية) على هذا الصعيد، عن باقي الأحزاب السورية التي انطلقت من المدن، إنها نشأت في بيئة ريفية شعبية وبقيت كذلك محصورة فيها تدور في دائرة مغلقة، وبالتالي فهي حملت بذور ضعفها وتأخرها التاريخي معها منذ نشأتها. فهذه البيئة الريفية التي نشأت فيها المنظمة الآثورية أنتجت وعياً قومياً مشوهاً وقاصراً، اتجه نحو الماضي تاركاً المستقبل، خاطب المشاعر من غير أن يحاور العقل، كان وعياً آشورياً مبتوراً عن جذره الوطني، لا بل متعارضاً معه في العديد من الدوائر السياسية والحلقات الوطنية. كما بقيت المنظمة الآثورية من دون قضية مركزية، ومن غير أن ترسو على أرضية أو هوية وطنية محددة، وإنما برزت كـ(منظمة عالمية بلا حدود) لا وطن لها، انتشرت عبر الجاليات الآشورية (السريانية الكلدانية) في أوربا وأمريكا، في حين تقلص وجودها كثيراً داخل الوطن السوري، إذ يقتصر وجودها اليوم على بعض الأوساط الشعبية المنغلقة على ذاتها في الجزيرة السورية، تحكمها وتتحكم بها العلاقات والروابط الاجتماعية والأسرية التقليدية.و بقيت، الرومانسية القومية وضبابية الأهداف والشعارات، سمة ملازمة لفكر وخطاب المنظمة الآثورية الديمقراطية، التي يعرفها دستورها بأنها : ((منظمة قومية سياسية ديمقراطية تهدف إلى الحفاظ على الوجود القومي للشعب الآشوري وتحقيق تطلعاته القومية المشروعة(السياسية، الثقافية، الإدارية) في وطنه التاريخي(بلاد ما بين نهرين)..)). وبسبب هذه الرومانسية تعاملت مع الحالة الآشورية وكأنها حالة قائمة منجزة، في حين الواقع يقول غير هذا، إذ لم تتمكن المنظمة الآثورية ومعها بقية الأحزاب الآشورية من اختراق جداران الطائفية والمذهبية التي تمزق البناء الآشوري إلا
في مناطق هامشية وزوايا جانبية جداً ومن غير أن تتمكن من نقل الشعب الآشوري من الحالة (القومية الطبيعية- الثقافية) الى (القومية الإرادية- السياسية)، كما أنها أخفقت في الوصول الى شرائح آشورية/سريانية مهمة وكبيرة، خاصة تلك المقيمة في المدن وبشكل أخص شرائح البرجوازية الآشورية التقليدية التي بقيت الى تاريخه بعيدة عن الهم القومي الآشوري وهذا بلا ريب شكل أحد أهم نقاط ضعف (الحركة الآشورية) السورية. ومن أبرز الأخطاء السياسية في تاريخ الحركة الآشورية السورية، انخرط معظم أعضاء المنظمة الآثورية، قواعد وقيادات، في حزب (البعث العربي الاشتراكي) بعد مجيء حافظ الأسد الى السلطة عام 1970، بمن فيهم (مسؤول المكتب السياسي)، الذي بقي لسنوات طويلة عضواً عاملاً ملتزماً في حزب البعث الحاكم الى حين تم فصله مع آخرين غيره من أعضاء المنظمة بتهمة الازدواجية السياسية، صيف عام 1985.بالطبع، كان الخوف من (المخابرات السورية) سبباً مهماً في تستر الآثوريون بالبعث، خاصة لمن كان يبحث عن وظيفة في الدولة، لكن لا يمكن لأي ذي عقل سياسي ناضج ووعي قومي سليم أن يبرر، تحت أية ذريعة أو مسمى، لحركة آشورية أن ينخرط أعضائها في صفوف حركة قومية عربية تتناقض معها في الأهداف والتوجهات، تسعى لابتلاع كل القوميات الأخرى وصهرها في بوتقة القومية العربية، إذ يستحيل على المنظمة الآثورية أن تتبنى خياراً سياسياً خاصاً بها وأن تكون جادة في مطالبتها بالحقوق القومية والسياسية للشعب الآشوري، وقيادتها تخضع لأوامر وتوجيهات لحزب البعث العربي الحاكم. وهذا يفسر ابتعاد المنظمة الآثورية طيلة المرحلة الماضية عن قوى (المعارضة الوطنية) في البلاد.هذه الازدواجية في الانتماء السياسي والقومي التي رافقت المنظمة الآثورية في مرحلة مهمة من مسيرتها السياسية، أفقدتها الكثير من مصداقيتها القومية ومن رصيدها السياسي في المجتمع الآشوري والسوري عامة، فهي من جهة اولى: تكشف عن ضعف وهشاشة العقيدة الآثورية، ومن جهة ثانية: تظهر محنة وضحالة (العقل السياسي) في المنظمة، ومن جهة ثالثة: تبرز حجم التناقضات السياسية والفكرية التي كانت ومازالت تعيشها.وأقل ما يمكن قوله عن تلك الازدواجية أنها ألقت بالمنظمة الآثورية الديمقراطية في أحضان حزب البعث العربي الحاكم والسلطات السورية، وهي ستبقى أسيرة المضاعفات السياسية والفكرية لهذا (الزواج السياسي) الغير شرعي والغير متكافئ مع البعث السوري، كذلك ستبقى تتخبط في علاقاتها السياسية مع مختلف القوى والأحزاب الوطنية السورية، خاصة مع قوى الحركة الكردية التي تتعايش معها في الجزيرة السورية.تلك الذهنية الآثورية المشوهة التي ترعرعت في أحضان البعث السوري وتشبعت بثقافته الشمولية الإقصائية، المعادية للديمقراطية وحرية الرأي، هي التي أوصلت المنظمة الآثورية الى ما هي عليه من انحدار سياسي وانحسار تنظيمي وانسحاب معظم الكتاب والمثقفين ذات الميول الديمقراطية من صفوفها، وهي اليوم أضعف من أن تطرح أي برنامج سياسي والعمل من أجله. في السنوات الأخيرة حصل بعض التغيير النسبي في مواقف وسياسات المنظمة الآثورية، بفضل تطعيم القيادة ببعض الدماء الشابة والعقول المنفتحة، تجلى هذا التغيير عبر توقيعها المتأخر على (اعلان دمشق)، لكن ما كان لها أن توقع لو لا سياسة (غض النظر) التي تتبعها السلطات السورية تجاه الأحزاب المحظورة. ونظراً لما تعانيه المنظمة الآثورية من أزمة بنيوية عميقة ومزمنة ومن عطالة سياسية وبطالة فكرية تجتاح معظم هيئاتها، لا يمكن لأي تغيير في مواقفها أن يرتقي الى مستوى التحول الاستراتيجي في نهجها، والانتقال من مرحلة تأييد التغيير الديمقراطي في البلاد الى مرحلة الانخراط الفعلي والجاد ومشاركة باقي قوى المعارضة الوطنية في عملية التغيير هذه.

سوري آشوري مهتم بحقوق الأقليات
[email protected]