قراءة في طروحات محمد مراد

قراءة وتحليل ؛ د. إسماعيل نوري الربيعي


لبنان المعاصر
فرضت الطبيعة الجبلية للبنان أثرها في توزيع الملكيات، فخلال الستينات من القرن العشرين كان متوسط المساحة الزراعية المملوكة للفرد الواحد حوالي نصف هكتار في منطقة جبل لبان، وفي منطقة الشمال حوالي الهكتار، وفي الجنوب حوالي هكتار واحد. وقد مثلت الملكيات الصغيرة ما نسبته 11% من مجمل مساحة لبنان، فيما سيطر الملاك الكبار على نسبة 70% من مجموع الأرض المزروعة. وقد برز دور التجار القاطنين في المدن، والبعض من المهاجرين في شراء المزيد من الأراضي الصالحة للزراعة. حيث برزت بساتين الفواكه والحمضيات التي يملكها المغتربون في المنطقة الساحلية الواقعة بين صيدا وصور، والتي تملكتها عوائل: سلامة، طوبيا، عكاري، أبي صالح البساط، الخولي. أما دور العوائل التقليدية فيبرز في منطقة الجنوب، حيث عوائل: سلام، عسيران، الخليل، صالحة، حلاوة، الأسعد، أبو خليل. ومن هذا الواقع فإن ما نسبته 10% من الملاكين كانوا يملكون ما نسبته 60% من مجمل المساحة الصالحة للزراعة. ومن مستوى التوزيع هذا يمكن ترصد قوة الريف في إبراز نخبة السلطة.
شكلت النخبة العقارية والملاكين القوة السياسية البارزة، حتى شهدت اللجنة الإدارية التي أعلن عنها عام 1920 عن سيطرة واضحة للملاكين، حيث بلغ عددهم 13 من أصل 17 عضوا. في المجلس النيابي عام 1926 بلغ عددهم 25 نائبا من أصل 46، أي بنسبة 55%. بل أنهم احتكروا منصب رئاسة الوزارة خلال فترة الانتداب، حيث تكمن خير الدين الأحدب من تشكيل الوزارة لخمس مرات خلال الفترة 1926- 1943، واستطاع بشارة الخوري من تشكيل الوزارة لثلاث مرات ووزارتان شكلهما هبد الله اليافي. وفي برلمان 1942- 1947 كانت نسبة الملاكين حوالي 40%، وصولا إلى الستينات من القرن العشرين، حيث تبلور تنامي دور المحامين في السيطرة على البرلمان، حتى بلغت نسبتهم حوالي 36% في برلمان عام 1972. مما يعكس عن حالة من التغير الذي شهده قطاع الاستثمار الاقتصادي، وتنامي دور الاستثمارات التجارية والمالية منذ الستينات.
مثلت العاصمة بيروت المركز التجاري والسياسي لمجمل النشاط البشري، حتى أنها استقطبت نصف سكان لبنان. فيما بقيت الزعامات المرتكزة إلى النفوذ العائلي والإقطاعي تقوم على عوائل؛ جنبلاط في الشوف، إرسلان في عالية، الأسعد وعسيران في الجنوب، الخازن في كسروان، فرنجية في زغرتا، الحسيني وحمادة في البقاع، الأحدب والبيسار وكرامي والمقدم في الشمال. وعلى الرغم من استقرار أغلب زعماء هذه العوائل في بيروت، إلا أن الارتباط بالمناطق الريفية الأصلية، بقيت تمثل القوة والنفوذ والإمداد الاقتصادي لهم. وكان للنظام الانتخابي اللبناني والقائم على دوائر التسجيل للنفوس، فإن الارتباط بقي يقوم على مدى الارتباط بالأماكن الأصلية التي ينتمي إليها الناخبون. ومن هذا الواقع فإن سيطرة الريف اللبناني تكشف عنه نسبة النواب من خارج بيروت، والذين بلغت نسبتهم في برلمان 1943 حوالي 84%.
التركيز على دور النخب من الملاكين والإقطاعيين وكبار الرأسماليين، لا يمكن له أن بنفي دور الفئة الوسطى اللبنانية حيث المثقفين والإنتلجنسيا الوطنية، والتي كان لها الممارسة الوطنية الواضحة في تاريخ لبنان المعاصر، حتى ليمكن ترصد دور الجيش اللبناني والذي تبدت ملامحه منذ العام 1941، حيث استثمرت تصريح المندوب السامي الفرنسي حول استقلال لبنان في حزيران 1941، ليعلنوا عن انتمائهم الوطني لصالح بلدهم. وقد تصدر المشهد كبار القيادات من أمثال؛ فؤاد شهاب، سالم، زهران. فيما برز من الضباط؛ وديع ناصف، جميل لحود، فؤاد لحود، عبد القادر شهاب، سعد الله النجار، اسكندر غانم. وبحلول العام 1943 برزت أولى تشكيلات الجيش اللبناني، بقيادة فؤاد شهاب حيث برز المسعى أن يكون الجيش مؤسسة وطنية تستقطب مجمل ألوان الطيف اللبناني وبمختلف أديانه وطوائفه وأعراقه من دون تمييز. وكان لوصول فؤاد شهاب إلى رئاسة الوزراء عام 1952، ورئاسة الجمهورية عام 1958، دوره في توكيد الطابع اللبناني، الذي ميزه عن مجمل السياقات العسكرية التي طبعت توجهات المشرق العربي المعاصر.

النشاط الاقتصادي
بز الاتجاه نحوالزراعة النقدية في لبنان، حتى مثل اإنتاج الحرير عصبا رئيسا في الاقتصاد اللباني، والذي شهد في الأربعينات القرن التاسع عشر ما مقداره 300طن. وخلال بدايات القرن العشرين بوصا الانتاج إلى حوالي خمسة آلاف طن، وقد برز الاهتمام الفرنسي بهذا الانتاج، حيث قدمت الامكانات المادية لتطوير الانتاج، من أجل رفد صناعة الحرير. إلا أن حجم الانتاج تأثر بواقع الأزمة الاقتصادية العالمية 1929-1933. وقد بلغت مصانع الحرير في بداية القرن العشرين حوالي 200 مصنعا، كانت جلها تتم بتمويل فرنسي، مرتبطة بمصارف ليون والتي كانت تقدم القروض بفائدة تبلغ نسبتها حوالي 10%. وقد حظيت بيروت بالمكانة التجارية المهمة في صادرات الحرير، بالإضافة إلى الأهمية الإقليمة بوصفها ميناء يتم تصدير المزيد من بضائع المنطقة. هذا بالإضافة إلى ظهور مصانع الحرير في المدينة، والتي تعود ملكيتها إلى عوائل؛ سرسق، تويني، بسترس، طراد، فريج، المدور، أبيلا. لحود، بسول، فياض. وخلال فترة الانتداب الفرنسي 1920-1943 برز دور النخبة التجارية المسيحية اللبنانية في السيطرة على هذا القطاع الاقتصادي المهم. لقد حظيت بيروت بالأهمية الكبيرة على صعيد النشاط التجاري، حتى أنها شهدت ظهور شراكات رأسمالية كبيرة وواسعة من قبل التجار المسلمين والمسيحيين. وقد حرصت السلطات الانتدابية الفرنسية على جعل بيروت مركزا تجاريا واتصاليا في الشرق الأوسط، حيث تم افتتاح المزيد من البنوك عام 1936، فتم افتتاح ثلاثة بنوك فرنسية، وبنوك إيطالية ومصرية وسورية، واهتم الفرنسيون بطريق البريد المؤدي إلى العراق وإيران، والعمل على تأمين الاتصالات اللاسلكية بالنسبة للشركات، حيث منحت الامتياز لشركة راديو أوريان، وفي العم 1938 عملت على ربط بيروت بمدينة مرسيليا بالكيبل البحري. ومن هذا النشاط والعناية الكبيرة، أضحت بيروت ذات أهمية قصوى في إعادة التصدير في المنطقة، حتى راحت موانئ المنطقة تعتمد على قيم بيروت التجارية، حيث ارتبطت أغلب مدن المنطقة بها مثل ؛ القدس وحلب ودمشق والبصرة والقاهرة والإسكندرية.
على صعيد الإنتاج الزراعي بقيت العلاقة تقوم على سيطرة كبار المستثمرين، الذين عمدوا إلى المضاربة في طريقة تأجير الأراضي، حيث راح المستثمرون يؤجرون الأراضي من كبار الملاكين، ويعمدون بدورهم لتأجيرها إلى الفلاحين في شروط تعسفية، كان لها الأثر البالغ في تفاقم أوضاع الفلاح اللبناني.

فلسطين المعاصرة
ساهم الفلسطينيون في أعمال المؤتمر السوري العام، وكان لهم الدور في الحومة العربية في دمشق، لكن البريطانيين سعوا في أعقاب إعلان الانتداب على فلسطين إلى تحديد مجال الانتماء في المجلس التمثيلي، من خلال السعي نحو توزيع الحصص وذلك من خلال تعيين 11 موظفا مدنيا بريطانيا، و2 من اليهود وثمانية من المسلمين و 2 من المسيحيين. ومن هذا واجه البريطانيون رفضا من قبل الأعيان الذين وجدوا في هذا التوزيع هضما للحقوق التاريخية التي يمثلونها. من جانب آخر سعت المنظمات الصهيونية وعبر علاقاتها في لندن إلى تعطيل فكرة المجلس التمثيلي.

سياسة الأرض
شهدت الفترة 1920- 1948 توجها بريطانيا نحو تشجيع الملكيات الكبيرة، في سبيل تسهيل عمليات نقل الملكية لصالح المنظمات الصهيونية ,التي نشطت إبان تلك الحقبة حيث برز دور الصندوق القومي اليهودي، الذي بذل الجهود نحو شراء المزيد من الأراضي بغية تأجيرها للمهاجرين اليهود القادمين إلى فلسطين. فيما راحت سلسلة من القوانين التي أصدرتها سلطات الانتداب، مثل قانون نزع الملكية عام 1926 والتي أتاحت للسلطة من حق السيطرة على الأرض باعتبار النفع العام. وقانون تسوية حقوق ملكية الأراضي عام 1928 والمستند إلى تحويل الأرض إلى أميرية تؤول ملكيتها إلى الحكومة. ومنواقع المحاباة البريطانية برزت المزيد من المشكلات والتقاطعات الاجتماعية، حيث فئة كبار الملاكين التي تمتعت بالإمتيازات، والجموع الواسعة من المهاجرين والتي بلغت نسبتها 30% من الذين لا يملكون شيئا. وخلال العام 1936 وصلت ملكية نسبة ضئيلة من الملاكين ما نسبته 20%، أولئك الملاكين الذين يسكنون المدن ويعتمدون في تصريف شؤون إدارة أملاكهم من خلال الوكلاء.
كانت الهئية العربية العليا التيت عملت خلال 1936-1948، قد تشكلت في أغلبها من من كبار الملاكين، حتى أن عدد أعضاء الهيئة والبلغ 32 قد مثلها من الأعيان 28 عضوا ينتمون إلى كبريات العشائر والبيوت الفلسطينية المعروفة. والواقع أن النشاط التجاري كان قد ارتبط بطبيعة التطورات التي فرضتها التطورات الرأسمالية التي ارتبطت بها معظم أقطار المشرق العربي، حتى برزت ملامح النشاط عبر سيطرة المسلمين على الأملاك الواسعة، مقابل نشاط المسيحيين واليهود في مجال التجارة والحصول على وكالات الشركات التجارية الأوربية في موانيء حيفا ويافا وغزة، بل والقدس على صعيد التجارة الداخلية.
اندمج الاقتصاد الفلسطيني بالانتاج الرأسمالي منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر. حتى عرفت زراعة الحمضيات، لا سيما برتقال يافا الذي عرف بإنتاجه الوفير والجيد، حتى تم تصدير الكميات الكبيرة إلى تركيا ومصر. وخلال فترة الانتداب 1920-1948، شهدت نسب إنتاج وتصدير الجمضيات ارتفاعا واضحا حتى بلغت في العام 1939 ما يوازي 74% من مجمل الصادرات الفلسطينية.
وخلال الفترة 1925-1937 برزت المزيد من الصناعات في مجال الإسمنت و الأثاث حتى أن نسبة العمال باتت تعيش حالة من الازهار والزيادة، حيث بلغ عدد العمال عام 1942 ما يقارب 64 ألف عاملا. وكانت احصاءات عام 1944 قد أشارت إلى الزيادة الواضحة في ارتفاع نسبة الهجرة م الريف إلى المدينة حيث أشارت النسبإلى 29% من المسلمين و75% من اليهود 79% من اليحيين، مما يدل على أن المسلمين بقوا يتركزون في المناطق الريفية والقرى. وهذا الواقع كانت آثاره قد توضحت خلال أحداث نكبة 1948. فقد شهدت المدن الفلسطينية هجرة واسعة لسكانها والتي انعكست على صعيد دور النخبة المدينية الفلطسينية في توجيه السلطة، حتى لم يبق من العرب في القدس الغربية سوى 4 آلاف، وفي يافا 4 آلاف، وفي حيفا 3 آلاف.

الأردن
تبرز سيطرة الملكيات الكبيرة على واقع توزيع القوى والشرائح الاجتماعية، حيث يملك حوالي 117 ملاكا خلال العام 1950 ما مساحته نصف مليون دونم. أما الفلاحون الذين يعيشون في حالة منالرخء لإ فيملكون ما مساحته 29% من مجموع مساحة الأرض الصالحة للزارعة، فيما يمثل الفلاحون المتوسطون ما نسبته 9% ولا تتجاوز مسبة ملكية الفقراء من الفلاحين إلا على 36% من الأراضي. ومن واقع تراك الديون صار التطلع نحو بيع الملاك الصغار أملاكهم لصالح الملاك الكبار, وصولا إلى بروز دور الوكلاء الذين باتوا يمثلون مصالح الكبار مقابل الصغار من الفلاحين، أولئك الذي راحت مصالحهم تتراكم حتى باتوا يشكلون شريحة اجتماعية لها حضورها على صعيد النشاط الاقتصادي، وراحت تبحث عن دور سياسي لها. مثل الجيش الأردني وسيلة لتعزيز الولاء السياسي، وتعميق مجال الولاء الوطني، والتجانس الاجتماعي بين البادية والمدينة، حتى كانت التشكيلات الرئيسة و الضباط تتألف من القبائل الرئيسة؛ شيران، الحويطات، بنو صخر، شمر. ويعود تاريخ تأسيس الجيش الأردني إلى الوحدة التي أشرف عليها الكابتن بيك عام 1921 وبقوام 750 جنديا كانوا من بقايا الجيش العثماني، فيما انتقلت القيادة لصالح غلوب باشا عام 1939، والذي بقي في منصبه حتى عام 1956.

الهوامش:
1.رزق الله هيلان، الثقافة والتنمية الاقتصادية في سورية والبلدان المختلفة، دار ميسلون، دمشق 1981.
2.محمد مخزوم، أزمة الفكر و مشكلات السلطة السياسية في المشرق العربي في عصر النهضة، معهد الإنماء العربي، بيروت 1986.
3.ذوقان قرقوط، تطور الحركة الوطنية في سورية 1920-1939، دار الطليعة، بيروت 1975.
4.محمد حرب فرزات، الحياة الحزبية في سورية 1908-1955، دار الرواد، دمشق 1955.
5.شارل عيساوي، التاريخ الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ترجمة سعد رحمي، دار الحداثة، بيروت 1985
6.رؤوف عباس، النظام الاجتماعي في مصر في ظل الملكيات الزراعية الكبيرة، دار الفكر الحديث، القاهرة 1973.
7.محمود عبد الفضيل، التشكيلات الاجتماعية والتكوينات الطبقية في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1988.
8.ماهر الشريف، تاريخ فلسطين الاقتصادي- الاجتماعي، دار ابن خلدون، بيروت 1985.
9.غسان سلامة، المجتمع والدولة في المشرق العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1987.
10.محمد مراد، النخب والسلطة في المشرق العربي المعاصر، معهد الإنماء العربي، بيروت 1996.

الحلقة الأولى

الحلقة الثانية