في إحدى رسائله المتلفزة، قال السيّد حسن نصرالله بما معناه quot;إنّ المقاومة لا تحارب من أجل الجغرافياquot;، أي ليست حرب quot;المقاومة اللّبنانيّةquot; حربًا كلاسيّة بمعنى الحفاظ على هذا الموقع أو ذاك، وفي رسالة أخرى ذكر مصطلح الكرامة، وهو أيضًا مصطلح لا علاقة له بالجغرافيا. ولهذا التّصريح وغيره دلالات كثيرة هي أبعد ما يكون ممّا قد يتبادر إلى الذّهن من أمور تتعلّق بالتّكتيك العسكري وما إلى ذلك من أمور الحروب. لهذا السّبب بالذّات، حريّ بأصحاب القرار في لبنان الانتباه إلى هذه الأقوال إذا رغبوا في الوصول إلى حال من الاستقرار في هذا البلد المنكوب في الجغرافيا، بَشَرًا، شَجَرًا وحَجَرًا.
عندما كان الاحتلال الإسرائيلي موجودًا في لبنان قبل العام 2000، كان ثمّة ذريعة واضحة لحزب الله في مقارعة هذا الاحتلال. مع أنّه كان الأولى بلبنان على سائر ملله ونحله أن يقوم بمقارعة هذا الاحتلال، وألاّ تقتصر هذه المقارعة على هذا الفصيل أو ذاك. صحيح أنّ الذّريعة كانت موجودة بوجود الاحتلال الإسرائيلي، غير أنّ حرب حزب الله، كما يُفهم من أقوال حسن نصر الله، quot;ليست على الجغرافياquot;، أي ليست تهدف إلى تحرير هذا الجزء المحتلّ من لبنان أو سواه، كما أنّها لا تعبأ باحتلال هذا الجزء أو غيره من الجغرافيا. ذلك، لأنّ أجندة هذا الحزب هي أجندة quot;اللهquot; الّذي يتسمّى باسمه، واسم الجلالة هذا يقع خارج الجغرافيا، كما صاغته العقائد التّوحيديّة السّاميّة على مقاسها هي.

أعود وأكرّر أنّه وبوجود الاحتلال الإسرائيلي في لبنان، كانت الذّريعة موجودة، وكان ثمّة نوع من الشّرعيّة لوجود المقاومة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي في لبنان، غير أنّه وبعد أن تلاشت هذه الذّريعة مع الانسحاب الإسرائيلي الكامل من لبنان، وإلى الحدود الدّوليّة المعترف بها من قبل الأمم المتّحدة بين البلدين، فقد فقد هذا الحزب شرعيّة وجوده كميليشيا مسلّحة داخل لبنان، علمًا أنّه كان من المفروض أن ينزع سلاحه كسائر المليشيات الطّائفيّة في لبنان إثر اتّفاق الطّائف. غير أنّ هذا الحزب تذرّع بوجود الاحتلال الإسرائيلي للإبقاء على سلاحه، لأنّه يطرح نفسه خارج الجغرافيا. ولهذا السّبب فقد طفت على السّطح قضيّة مزارع شبعا الّتي شكّلت ذريعة جديدة لبقاء هذا الحزب خارج الشرعيّة اللّبنانيّة، لكي يستمرّ هذا الحزب في طرح نفسه خارج حدود الجغرافيا اللّبنانيّة.

***
لقد تساوقت هذه الحال الهلاميّة اللّبنانيّة مع مصالح طرفين فاعلين في هذه المنطقة. الطرف الأوّل والمباشر هو نظام البعث المستبدّ في سوريا الّذي رأى في حزب الله سلاحًا خارج حدود الدّولة السّورية يقارع به إسرائيل الّتي تحتلّ الجولان، دون أن يتعرّض هذا النّظام لمساءلة دوليّة، إذ أنّ حدوده مع إسرائيل هادئة منذ ما يزيد على ثلاثة عقود. ولأجل مقارعة إسرائيل من هذه الحدود اللّبنانيّة فإنّ هذا النّظام مستعدّ إلى تقريب (من قربان) لبنان وأهله، بشرًا وشجرًا وحجرًا، على مذبح الأيديولوجيّة القبليّة المتحكّمة في هذا النّظام. كما تساوقت هذه الحال مع مصالح ملالي إيران الّذين يبحثون عن موطئ قدم لتصدير ثورتهم الشّيعيّة الإسلاميّة خارج حدود إيران، ابتغاء إلهاء الشّعب الإيراني، وسائر المهووسين بالغيبيّات، بهذا الأفيون الدّيني.
هكذا لعب حزب الله في لبنان، ولأسباب داخليّة لبنانيّة من جهة، ولأسباب عقائديّة دينيّة من جهة أخرى هذه اللّعبة، والّتي أشكّ في أنّه مستعدّ للتّنازُل عنها. إنّ هذا النّوع من الأحزاب أو الفصائل الّتي quot;لا تحارب من أجل الجغرافياquot;، لا تولي اهتمامًا إلى ما تحمله هذه الجغرافيا. لهذا السّبب فإنّ الخراب الّذي قد يحلّ بهذه الجغرافيا ليس قائمًا في سلّم أولويّاتها. والجغرافيا في هذا السّياق هي الوطن والدّولة والنّاس في هذه الحدود الجغرافيّة.

***
الحقيقة المرّة الّتي يجدر بنا أيضًا أن نذكرها وبصراحة هي أنّ كلّ الأحزاب اللّبنانيّة هي أحزاب تقع خارج الجغرافيا. إنّها أحزاب تأسّست في حدود الطّوائف والقبائل، إلاّ فيما ندر بالطّبع في هامش هذه المجتمعات. وعلى العموم، إنّ ما يتسمّى زورًا وبهتانًا في العالم العربي كافّة باسم حزب إنّما هو يقع عادة خارج الجغرافيا، أكان الحزب إسلامويًّا أو قومويًّا أو غيره من أحزاب الملل والنّحل.
العالم الّذي نعيشه هو عالم جغرافي قبل أن يكون شيئًا آخر. الدّيانات، وعلى وجه الخصوص التّوحيديّة منها، هي خروج من هذه الجغرافيا، هي خروج من النّور إلى الظّلمة وهي خروج من الحياة إلى الموت. لذلك، وعلى مرّ التّاريخ البشري، لم تجلب هذه سوى المآسي على بني البشر، ولم تأت بشيء غير الظّلمة.
بنو البشر بحاجة ماسّة إلى العودة إلى حدود الجغرافيا. أمّا ما يتعلّق بما وراء الجغرافيا، فليُترَكْ للأدب والفكر والفنّ، وللدّين أيضًا ولكن بشرط أن يتمّ فصله عن الدّولة الجغرافيّة.
هذا هو خيار الحياة لبني البشر في كلّ مكان، وعلى وجه الخصوص في هذه البقعة من الأرض، وما من خيار آخر سواه.
وإن كان لديكم طريق أخرى، هيّا أرشدونا!

salman.masalha at gmail dot com