مع بداية الألفية الجديدة، بدا الاقتصاد السعودي يتأرجح بين نسب نمو ضعيفة لم تتعد معدل سنوي بحدود 1,5% خلال 1998-2002 ومديونية حكومية عالية بلغت 92.6% من الناتج القومي الإجمالي، خلال نفس الفترة. هذا بالإضافة إلى بطالة خانقة في الوقت الذي يجد فيه ملايين الأجانب عملا داخل الدولة ! كل هذا بالإضافة إلى نقاط ضعف هيكلية مثل وضع المرأة المزري وعدم ملائمة النظام التعليمي لقيم العصر ومتطلبات الاقتصاد الحديث.
أدى الانهيار المتواصل لمعدل دخل الفرد من 21 ألف دولار سنة 1980 إلى 7 آلاف دولار فقط سنة 1999 إلى تشاؤم مبرر لدى عديد الملاحظين، حتى أن المحلل السياسي فريد زكريا في مقال له في مجلة نيويورك، قبل الطفرة، توقع بان تصبح السعودية دولة فقيرة خلال عقدين من الزمن فقط.
لكن الارتفاع الكبير في سعر النفط وان كان اقل مما يقال (انظر مقالي السابق بعنوان quot;اقتصاديات سعر البرميلquot;)، أدى إلى ارتفاع لم يكن متوقعا لإيرادات الدولة. وأصبح السؤال الملح : كيف تستعمل الحكومة السعودية هذه الأموال، وهل تستغلها الاستغلال الأمثل، بحيث تكون الأساس لنمو مستدام للدخل القومي، خلافا لما حصل بعد الطفرة النفطية للسنوات 1973 و1979.
لا شك أن الحكومة السعودية تدرك جيدا أن الطفرة ستكون وقتية وان الاستجابة لطموحات المواطنين لا يمكن أن تحصل إلا بتنويع مصادر الدخل بالتطوير التدريجي للأنشطة البديلة في مجالات الصناعة والخدمات. كما أعطت أولوية لشراء الدين الحكومي.
خصصت الحكومة أكثر من 100 مليار دولار لشراء دينها (الداخلي بالأساس)، مما أدى إلى انخفاضه كنسبة من الناتج الإجمالي من 82% سنة 2003 إلى 46.5% سنة 2005، والى 27.1% حسب توقعات صندوق النقد الدولي لسنة 2006. وهذا بطبيعة الحال قرار حكيم حيث كان هذا الدين يمثل عبأ على ميزانية الحكومة لما يتوجب دفعه سنويا من أسعار فائدة وأصول. بالإضافة إلى أن النسبة المرتفعة كانت ستضع الدولة في وضع حرج حسب متطلبات الوحدة النقدية الخليجية المزمع تنفيذها ابتداء من 2010 (معاهدة ماستريخت الأوربية لا تقبل بنسبة دين حكومي تفوق 60% على سبيل المثال).
كما بدأت الحكومة السعودية العمل على سياسة للتنويع الاقتصادي، أساسها خلق اقتصاد تنافسي، مما دعا إلى الدخول في مفاوضات لعضوية منظمة التجارة العالمية، خصوصا وان الاقتصاد السعودي منفتح نسبيا، حيث لا تزيد التعريفة الجمركة عن 5% في نطاق الاتحاد الجمركي الخليجي.
وبما أن سياسة التنويع لا تتم إلا بزيادة الاستثمار الخاص والبحث عن أسواق خارجية، فقد تم تطوير الهيئة العامة للاستثمار للترويج للفرص الاستثمارية وبناء شركات مع أقطاب الصناعة والمال في العالم (موقع : www.sagia.gov.sa)، ومركز تنمية الصادرات السعودية الذي يعمل تحت مظلة فرغ التجارة والصناعة (موقع : www.sedc.org.sa).
كما قامت الدولة بتطوير مدن صناعية متخصصة بأموال محلية وأجنبية، أشهرها quot;مدينة الملك خالد الاقتصاديةquot; التي تقوم بتطويرها شركة quot;اعمارquot; الإماراتية برأس مال يقدر بحوالي 26 مليار دولار. وهذا واحد فقط من 37 مشروعا رئيسيا باستثمارات 283 مليار دولار، تتصدرها استثمارات في قطاع النفط والغاز بمقدار 69 مليار دولار. ويتم تطوير مركز مالي على غرار ما يحدث في دبي وقطر والبحرين، الذي يتم العمل على بنائه في مدينة الرياض، والذي أبدت عديد المؤسسات المالية العالمية الكبرى عن نيتها العمل فيه.
كما بدا توجه جاد إلى تطوير السياحة، في مقدمتها السياحة الثقافية، حيث تقوم الهيئة العليا للسياحة بتجديد ما يزيد عن 6000 موقع تراثي وثقافي في الدولة.
يبدو المجهود السعودي متماشيا مع متطلبات المرحلة الراهنة ومتناسقا مع ما يحصل في عديد الدول النفطية الأخرى. لكن التحديات الأكبر تتمثل في النظام التعليمي، الذي تعرض لمسخ كبير نتيجة اختراقه من طرف الإخوان المسلمين الهاربين من جحيم عبد الناصر، والذين استغلوا لجوءهم في السعودية لبث سمومهم في المناهج التعليمية، كانت أحد نتائجها الإرهاب الذي عصف بالمملكة خلال السنوات الأخيرة.
يعني هذا المزيد من العمل لإلغاء ثقافة الكراهية والتكفير من المناهج وإعطاء دور اكبر للغات والآداب الأجنبية، بما فيها تدريس مادة الفلسفة والتاريخ الغربيين، وتغيير الهيكلية الحالية للتعليم العالي حيث أن 70% من التخصصات المتوفرة في الجامعات لا تتماشى مع متطلبات اقتصاد السوق، خلافا لدول مثل الهند و الصين التي نجحت إلى حد كبير في ملاءمة مخرجات التعليم مع احتياجاتها الاقتصادية.
باحث أكاديمي و خبير سابق بصندوق النقد الدولي بواشنطن.
[email protected]
التعليقات