ما كان غريباً أن يرتبط إسمُ الإسلام السياسي، ومنذ مستهل إطلالته على ساحة الأحداث في أربعينات القرن المنصرم، بمسمّى quot; المقاومة quot;. هكذا كانت التسمية، حرفياً، بالنسبة للكتائب المسلحة التي أسسها حزب الأخوان المسلمين في مصر آنئذٍ، والموجهة ضد الإحتلال الإنكليزي. قبل ذلك بقليل، كان الشيخ عزالدين القسام، السوري، قد شكل جيشه الخاص، المقاوم، لمقارعة العصابات اليهودية، المتنامية القوة والساعية إلى تحقيق حلم quot; هرتزل quot;، الصهيوني، على أرض فلسطين. هنا وهناك، إستند المقاومون الإسلاميون على فكرة quot; الجهاد quot;، بما هيَ عليه كفريضة بالنسبة للمؤمن، بحسب تفسيرهم للآيات الربانية والأحاديث النبوية. كانت حركة القسام، المسلحة، عفوية بحق؛ فلم تصوّر مرة ً على أنها الرحم الذي خرج منه، بعد أكثر من نصف قرن، مولودُ المقاومة الإسلامية، الفلسطيني. إلا أنّ ذلك الأمر كان مختلفاً بالنسبة للأخوان المسلمين، بفرعهم المصري تحديداً، والذي شرعَ مع عشية حرب العام 1948 بتنظيم خلايا مقاتلة ضد القوات اليهودية، وبالتالي أسهم في مدّ جذوره الفكرية والتنظيمية داخل التربة الفلسطينية.
جدير هنا بالتنويه، أنه ما قدّر للإخوان المسلمين في البلاد الشامية، لعبَ نفس الدور، الموصوف آنفا، الذي أخذه على عاتقه التنظيمُ الشقيق، المصري. ففي بلدٍ كسورية، متعدد الأديان والمذاهب والأثنيات، كان من الطبيعي أن تكون فكرة مقاومة المستعمرين الفرنسيين مرتبطة بنزعة وطنية شاملة، وليس دينية ضيقة. فلا غروَ أن تكون الطلقة الأولى ضد القوات المحتلة، قد إنطلقت من بندقية الوجيه السنيّ الحلبيّ، الكرديّ، إبراهيم هنانو، المتحالف وقتئذٍ مع الثوار العلويين في الساحل السوري، بقيادة الشيخ صالح العلي. كذلك كان مما له مغزاه، حقا، أن يذيع الزعيم الدرزي سلطان باشا الأطرش، من معقله الجبلي المنيع في جنوب دمشق، بيان إنطلاق الثورة السورية الكبرى؛ هذه الثورة، التي كان من بين أركانها وجيه مسيحيّ بارز ـ من أصل لبنانيّ ـ هوَ فارس الخوري، من تسلم فيما بعد منصب رئيس وزراء سورية. التنوع ذاته، الموسوم، إنسحبَ تأثيره أيضاً على لبنان والعراق، فيما يتعلق بالكفاح الوطني ضد المحتلين الأجانب.
حينما نستعيدُ الآن تلك التواريخ والأحداث، محاولة ً منا لتوصيف مفهوم quot;المقاومة الإسلاميةquot;، فإنه يسترعينا هذا اللبْسُ الحاصلُ للمفهوم نفسه؛ والمتجسد بقطيعته كفكر وممارسة، مع التقاليد الكفاحية لشعوبنا في المشرق، وخصوصاً في العراق وفلسطين ولبنان وسورية. هذه الأخيرة، بنظامها البعثيّ، المستبد، تبدو الأكثر نفخاً اليوم، عبْرَ مسؤوليها وإعلامها، في قربة quot; المقاومة الإسلامية quot;، حتى لتكاد أن تنفجرَ وتفجرهم معها! سنضربُ هنا صفحاً، ولوْ تجاوزاً، عن إنكار هذا النظام على شعبه لأي شكل من أشكال مقاومة العدوان الإسرائيلي، وآثاره المتحددة بإحتلال للجولان، مقيم منذ ما ينوف الأربعين عاماً : إلا أنّ السؤال المحيّر، للبعض طبعاً، فيما تكونه مصلحة ذلك النظام ـ وهوَ العلمانيّ، بحسب زعمه على الأقل ـ في تأييد ودعم وإسناد أحزاب سياسية، إسلامية، في الدول المجاورة؛ سواءً بسواء أكانت سنيّة الهوى أم شيعيّة؟ فكلنا يذكرُ ما كان يطلقه المسؤولون السوريون، المرة تلو الاخرى، من أنّ بلادهم كانت عرضة لـ quot; لإرهاب quot;، في مستهل ثمانينات القرن المنصرم، على يد الجماعات الإسلامية المسلحة. تصريحاتٌ متوافقة، بخبث جدير بصاحبه، مع ما كان يوجه لأولئك المسؤولين أنفسهم من تهم دعم الإرهاب في عراق ما بعد صدام، بشكل خاص. فرفاقهم من البعث المنافس سابقا، كانوا قد توصلوا، بدورهم، إلى مفهوم quot; المقاومة الإسلامية quot;، في محاولة يائسة لإستعادة سلطتهم البائدة. وعلى هذا، كان من قيادات البعث العراقي أن أطالوا اللحى، مقتدين بالقائد الضرورة، وتدروشوا وتنسكوا وما عاد كتاب الله يفارق أياديهم الملطخة بدماء الملايين من ضحايا طغيانهم.
إنّ ممالأة بعض معارضينا السوريين، الصريحة أو المبطنة، لما يُسمى quot;المقاومة الإسلاميةquot; في فلسطين ولبنان والعراق، يُشبه إستعادة البعثيين المتسلطين لتاريخهم التليد، المزعوم أيضاً، في التقاليد الديمقراطية والعلمانية. فكل من الحالتيْن الموسومتيْن، لأهل السلطة ومعارضيهم، أشبه بضفتيْ نهر النفاق؛ النهر الذي تنهل من مياهه الآسنة جماهيرٌ عربية، طائشة، بأميتها وغوغائيتها وسلبيتها. لقد عزّ صوتٌ عال، واحدٌ، من أطياف تلك المعارضة العتيدة، يوصّف بجرأة وجسارة ومسؤولية، إشكالَ الحرب اللبنانية الأخيرة؛ بما هيَ عليه كمخرج وحيدٍ، مفترض، من ورطةٍ إقليمية، سافرة، لنظامَيْ الإستبداد في دمشق وطهران. إنه صمتٌ مخز، مريبٌ، لا يقلّ فداحة ً عن سفح الدم اللبنانيّ وإباحته، ولا عمّا دهمَ موطنُ الأرز من دمار وخراب ونزوح ومعاناة. لقد فهمَ معظمُ اللبنانيين، جيداً، كنه الإبتسامات العريضة لشدق quot; معلم quot; الخارجية السورية، خلال مؤتمر بيروت وفي غمرة الحرب، وما تبعها من قهقهات سيّده، في خطابه الأخير quot; المدشن quot; إنتهاء تلك الحرب؛ والتي لم تقل شماتة وغلاً ولؤماً : فهل جاز هذا، أيضاً، لفهم بعض معارضينا، السوريين؟؟
التعليقات