بسم الله الرحمن الرحيم
(الا لعنة الله على الظالمين). (سورة هود الآية 18)
في سنة خمس وسبعين للهجرة (694 ميلادية) ، تولى عبد الملك بن مروان الخلافة ، ونودي به أميرا على جميع المؤمنين ، وكان الحجاج قبلها بعام قد سار الى المدينة أقام بها شهرين فأساء الى أهلها ، وأستخف بهم وهو أول من ختم على أيادي الصحابة ، كأنس بن مالك وعبد الله الأنصاري وسهل بن سعد الساعدي ، ثم عاد الى مكة وهدم الكعبة برميها بحجارة المنجنيق ، وأستخف بأهلها وسخر من صحابة رسول الله فيها ، ودس على أبن عمر من طعنه بحربة مسمومة فمات على أثرها ، وشدد على أهلها وأذلهم ضربا وشتما وحبسا ، وأقدم على ختم أعناق الصحابة بالرصاص ، ولعلها فعلة نكراء تكررت في الزمن الحديث متمثلة في وشم الجباه وقطع الآذان.

والحجاج بن يوسف الثقفي ولد عام 41 هـ (661 م) ، حاول معلموه أن يجعلوا منه صبيا مطيعا ، حتى أصبح يهاب السوط ويخشى العقاب وينزوي من النظرة العابسة ، ويبكي اذا لمست العصا جلده ، ولزمه ذلك الخوف حتى وهو كبير.
وصف بأنه رجلا اخيفش (كان بصره ضعيفا) وأصك الساقين (المضطرب الركبتين عند المشي) مفقوص الجاعرتين صغير الجثة دقيق الصوت أكتم الحلق.

كان جلفا في اخلاقه شرسا مع الآخرين ، تتهكم الناس به وتسخر منه لشكله ، ولسوء سلوكه فشل في بيع الزبيب ودباغة الجلود ، فانخرط في سلك الجندية فألتحق بروح بن زنباع الجذامي وزير عبد الملك بن مروان وصار من جملة شرطته ، كما تنامى في دخيلته حقده على الناس وضغينته عليهم.
كان حسب ما نقل عنه يحسن فن التملق وحب البطش وسفك الدماء وأهانة الآخرين ، ولما لمس الوزير منه من قسوة وعشق للبطش رشحه روح بن زنباع ليكون آمرا للجيش المنحل.

من دهاليز الظلمة الى الضوء ، ومن دروب المجهول الى السلطة ، تلك هي محطات الحجاج بن يوسف الثقفي ، الجريمة والبشاعة في التنفيذ وغلاضة القلب وقساوة الأداء هي ما ميزه ولفت أنظار الحكام اليه ، ليس القتل فقط هو السمات و النياشين التي يتباهى بها بل تملق الحكام والغدر والتفنن في افناء المعارضين للسلطة وسلخ الجلود والتفنن في القتل ، وماحصل لمصعب بن الزبير دليل اكيد على إن الحاكم أراد قتله لتمرده عليه ، لكن الحجاج تمادى حتى سلخ جلده بعد قتله وقام بصلبه بعد أن اجتز رأسه.

ومواقفه التي سجلها عليه التاريخ في القضاء على ثورة ابن الزبير ورميه الكعبة بحجارة المنجنيق من فوق جبل أبي قبيس ومن نواحي مكة كلها ، فأصابت الحجارة جوانب الكعبة فهدمته وأصابها الحريق (ابن قتيبة ndash; الأمامة والسياسة 1/214) ، واطلق تسميته على حجارة المنجنيق (صواعق تهامة) ، واجبر الجيش إن يطلق يوميا عشرة آلاف صخرة (الطبري ndash; تاريخ الأمم والملوك 7/203).
وأول تسميات المعارك والوقعات كانت في زمن الحجاج حتى تمت اعادتها في زماننا لتصير أم المعارك والقادسية والأنفال.
ويقال انه صلب أبن الزبير منكوسا ، أي معلقا من رجليه ورأسه منكوس الى الأسفل ، وتفنن في تشويه الجثة وتعذيب أهله وأهانتهم ، معبرا عن الخلجات النفسية الشريرة التي تغمر روحه ، موغلا في دماء الناس ، مستخفا بحياتهم ، محاولا رتق مراكب النقص التي تعتري نفسه الممتلئة بالحقد والكراهية والتسلط وانعدام المروءة والرحمة التي تراكمت في تلك الشخصية المركبة.

ويقول أبن الأثير في الكامل إن الحجاج عند مغادرته مكة قال : الحمد لله الذي أخرجني من أم نتن ، أخبث بلد وأغشاه.
وحين ولي على العراق وأزاح اللثام وأطلق مقولته الشهيرة (أنا بن جلا..) ، قال أما والله أني لأحمل الشر محمله ، وأحذوه بنعله ، وأجزي بمثله وأني لأرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها وأني لأنظر الى الدماء بين العمائم واللحى ، قد شمرت عن ساقيها تشميرا.
وحال انتهاء خطابه أمر الناس إن تلتحق بأول جيش شعبي في التاريخ ، وحين تقاعس شيخ كبير طاعن في السن عن المشاركة في الحرب وطلب من الحجاج إن يقبل ولده غضب عليه وأمر بقتله ونهب ماله على مرآى ومسمع من الجميع.
وحين صار حاكما على العراق فتك بالناس لم يهتم لعدد أو لجنس أو لعمر ، زرع الرعب في نفوس العراقيين فوصفهم بالرعاع وأبناء اللكيعة متبعا كل الوسائل غير الشرعية في إسناد الحكم واستمرار أساليبه ، ومع اتساع حجم الفجوة بين الحاكم والشعب ، واللافت للنظر انه اظهر قساوته وبذاءته وكلماته الفاحشة بحق أهل الكوفة وأهل البصرة ، وتعود دورة الزمن عادت لتعاد نفس الكلمات والاتهامات بحق اهل البصرة والجنوب واهل الكوفة والنجف والفرات الأوسط من حكامهم.

ومن الغريب إن يتمكن من يملك القوة والسلاح والسلطة من رقاب الناس فيمعن في قتلهم وعذابهم والانتقام منهم ، فيخشاه الناس ويتقوا شروره وتستكين له البسطاء والدهماء تلافيا لموتها وعذابها ، فيعتقد إن الأمر استتب له وان السلطة ستستمر له وأن الله غافل عما يفعل الظالم في الدنيا ، ويبدو إن سياسة القسوة والبطش التي مارسها الحكام ومن سلك مسلكهم دليل تنفيس نفسي لكوامن داخلية بالإضافة الى اعتقاده أنها تساهم في استتاب سلطته ابدا.

وفي معالجته لحركات المعارضة السياسية منها أو العسكرية ، دلائل واضحة عن القسوة والتطرف والتفنن في القتل الذي مورس بأمر من الحجاج.
ويذكر الطبري أن الحجاج كان مسعورا يقتل أسراه ومن يقع في يده قتلا وتعذيبا وسلخا ، وتفريقا في البلدان دون رحمة ، وأوغل في قتل مناوئيه حتى قتل عددا يرقى الى المبالغة ، إذ نقل انه قتل مائة وعشرين الفا أو مائة وثلاثين الفا. (تاريخ الأمم والملوك 8/35).
والحجاج أول من استعمل كلمة (العلوج) ، وأول من استعمل التسفير بين الناس ونقش على يد كل رجل منهم أسم البلدة التي وجهه اليها ، وكان يعذب من يقع تحت يده تعذيبا جسديا ونفسيا ، وكان يقتل بيده.

وكان الحجاج يلوح بالسيف إمام الناس في الأعياد والمناسبات ، فهو القائل : أما والله أني لآلحونكم لحو العود ، ولأعصبنكم عصب السلمة ، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل...
وقد اشتهر بقتل الناس وأقاربهم لإرهابهم ، كما اشتهرت سجونه وسجانيه ، وتفنن شرطته وحرسه في تعذيب الناس وتكميم الأفواه ، ويكفي انه شرع عقوبة سمل العيون وقطع اللسان عمن يذكر أمير المؤمنين (الخليفة) بسوء ، وتذكر كتب التاريخ عنه انه اول من سعى لتفتيت القيم الأخلاقية في المجتمع ، وبأي وسيلة كانت حتى يتسنى له تحقيق غايته في ديمومة السلطة والحكم.
ويذكر القيرواني في زهر الآداب ص 67 : إن الحجاج أراد أن يختار رئيسا لشرطته ، فقيل له : أي رجل تريد ؟ فقال : أريد رجلا دائم العبوس ، طويل الجلوس ، سمين الأمانة ، اعجف الخيانة ، يهون عليه سباب الشريف في الشفاعة.

وتلك المواصفات التي تلتزم بها المؤسسات الأمنية في العراق الحديث ، حين يراد اختيار رئيسا للمؤسسة الأمنية التي تعمل لإبقاء الرهبة في قلوب الناس ، والشك في عقولهم ، والصبر والصمت في نظرتهم على ما يصير اليه حالهم.
ومن غرائب الدنيا إن الحجاج كان يشعر جيدا بنقمة الناس عليه ، وسخطهم من حكمه ، فكان يشتري الذمم ويستأجر الضمائر ويسلب المواقف بأساليب خسيسة يكررها التاريخ ، ومن خسته انه كان يرسل التعزية لأهالي الضحايا سخرية منهم ونكالا بهم ، وهي طريقة اتبعها الحكام في العراق.
كما تزوج الحجاج من هند بنت المهلب بالقوة والأجبار ، وطلقها من زوجها وأقترن بها كرها ، وهو ذا شخصية تافهة فلو سلبت منه الولاية والحكم لعاد الى حاله لاتحميه سلطة ولاتتدافع عنه الجيوش ، وأعتمد الحجاج على حرس خاص يحميه من غضب الناس ولا يفارقه.
وعرف عن الحجاج أن حكمه قائم على الظن والتهمة ، لايحتاج الى بينة ولا لإثبات ولاتحقيق وسؤال عن جريمة ، يكتفي بأخبار من خاصته أو شرطته أو عسسه ليضرب العنق ، ويتلذذ بمنظر الموت والقتل وينتشي بلون دم البشر ، وتنفتح شهيته للطعام بمنظر الرأس المقطوع عن الجثة.
وأشتهر انه لايفهم غير منطق القوة والعنف ، وتمادى في ملاحقة المعارضين للحكم ودس السم أو اغتيالهم غيله في بلداتهم التي يلوذون بها ، وبقيت عقدته تتحكم في أساليبه وطرق ممارسته السلطة ، ويكفي انه كان يمعن في إذلال الأسير وينزل جام غضبه وسخطه ، وكان لايمكن إن يختلي بأحد الا بوجود الحرس الخاص المدججين بالسلاح.

القسوة والجبروت وأنعدام المروءة والغدر خصلة من خصال هذا النمط من الذين يمسكون زمام السلطة ، فينتقمون بصلف ويمعنون في الخسة ويعمهون في النذالة فلا تشعر بان لهم رحمة البشر ولا رقة الإنسان.
ومن غرائب القدر إن يكون الحجاج خائفا مرعوبا في حياته لاينام الا وحرسه يدور على مكانه ، ولا يستقر في مقام حتى تكون هناك حراسة للحرس الخاص ، والأكثر غرابة إن التاريخ يعيد نفسه في تعلق الطغاة بالمنجمين وقراء الطالع والمستقبل ، فيلجأ احدهم الى علم الغيب ويحرص على الاعتقاد بالرقى والحجب والخرز التي تمنحهم حياة أطول كما يعتقدون ، وغالبا ما يلجئون الى استدعاء من ترد أخبار معرفته بتلك الجوانب من المعرفة الوهمية ، فيريد تفسير الأحلام والحوادث ، ويبحث عن العرافين والمنجمين.

ويخفي الطاغية خوفه وخشيته من الناس باستعمال القسوة والظهور بمظاهر القاسي والعنيف ، ويحرص إن يظهر لهم بغير حقيقته ، وغالبا ما يتمنطق بالسيف يهزه في وجوه الناس ، كما يطلق بعض العيارات النارية من البنادق أرعابا وأخلاءا لخوفه وقلقه وخشيته من الناس.
وأول من عاقب قوم بتهمة رجل منهم هو الحجاج ، وتذكر المراجع انه طلب كميل بن زياد ، فلما امتنع عن القدوم اليه ، قطع عطاء قومه ومنع عنهم أرزاقهم ، فقتله وهو ابن سبعين. (ابن الأثير ndash; الكامل في التاريخ 4/86) ، وهي سنة التمسها الحكام في معاقبة أهل المطلوبين والمعارضين.
وكان يتحين فرصة القبض على العلماء والأسماء اللامعة المتميزة وفي قتله لسعيد بن جبير الأسدي مثلا على ما ارتكبه بعده الأشقياء من الحكام بحق العلماء.

ودون إن يدري الطاغية إن موته لابد واقع وان الناس ستدركه عاجلا أو آجلا ، فتخبو قوته وتتلاشى قسوته ويصير ذليلا منقادا تتداركه أحلام الضحايا وتغمر عيونه دماء الأبرياء ، يتمنى الموت ليتخلص من نظرات الضحايا وأهلهم والناس أجمعين ، عذابات الحقد التي تأكل روحه وتنخر قلبه وعقله ، عشرين عاما من حياة عذاب العراق سجلها التاريخ مرق بها الحجاج الى العذاب الأكبر ليقول فيه الشاعر :
الا أيها الجسد المسجى لقد قرت بمصرعك العيون
وكنت قرين شيطان رجيم فلما مت سلمك القرين

ومضى الزمان ليسجل اسمه بين الطغاة والمجرمين والقتلة ، سيرة دامية وتاريخ ملوث وضحايا لم تزل تلاحقه تطالب الحاكم العادل أن يحاكمه ليعذبه العذاب الأكبر ، صرخات المظلومين ولعناتهم لايمكن إن يغطيها صراخ المحكوم بالإعدام أو حشرجات الموت ، وتجربة مثل تجربة الحجاج بن يوسف الثقفي جديرة بأن نستعيدها أمام أمتنا العربية لنمنح الشهادة الى الحجاج الذي روض الأمة وقتل فيها ما قتل من اجل الانتصار على أعداء الأمة والسلطان ، وكان حاكما قاسيا قام ببناء جيش قوي يسكت الثورات والانتفاضات ، بالإضافة الى مآثرته الكبرى في بناء مدينة (واسط) بالعراق وتلك من المكاسب التي تستوجب على الأمة أن تمنحه شرف الشهادة الذي بات يمنح لكل من قتل الأبرياء وسفك دماء الضحايا وأنتهك الحرمات وأرتكب من الموبقات مالم يتم احصاءه ومعرفته ، وغيب مئات الالاف من الجثث ، وسبى الحرائر والعوائل وشرد البشر وحرق الأطفال والشيوخ بالأسلحة الكيماوية وبالسيوف التي استعادت مجدها فأعملها في رقاب العراقيين ، فقطع آذانهم ووشم جباههم وأستوفى ثمن الرصاص الذي قتلهم وقطع رقابهم إمام بيوتهم وطلب من اهاليهم إن يرقصوا فرحا لمقتل أولادهم ، ثم طلب منهم إن يصمتوا فلا جثث يعرفوها ولا قبور يتلمسوها ، ولاشهادة رسمية تثبت إن الدولة قتلت أولادهم ، وفي زمن عربي يعيد الاعتبار لأمثال الحجاج بن يوسف الثقفي ، حري به إن لاينساه التأريخ فهو مثل الأمة وقدوتها ونبراسها ، وصار من حقه على الأمة والناس في تمثال تتذكره الأجيال القادمة.

ومن يستقريء التاريخ في تشكيل الجيش الشعبي والقضاء على الانتفاضات والثورات والزواج بالقوة والغدر والقسوة ومحبة القتل وازدحام السجون التي امتلأت بالنساء والرجال ، والحروب والقسوة عند المقدرة وشراء الذمم والضمائر ومواصفات قادة الأمن والمخابرات التي يريد والحكم على الظن ودون تحقيق والعلوج وأخذ البريء بجريرة المتهم والتأكيد على أن تزر الوازرة وزر الأخرى ، كلها مواصفات تاريخية ينبغي إن لا تغبن الأمة حق الطغاة مهما تغير الزمن ، والأهم من كل هذا لم يكن الحجاج شيعيا ولا سنيا فقد كان مسلما ملتزما بمواقيت الصلاة وحج البيت والصوم.