خريف عام 1986م قامت السلطة بحركة اعتقالات واسعة، عملاً بقانون الطوارىء. فوفقا لهذا القانون، يجوز للحاكم العسكرى العام (رئيس الجمهورية) ولمن ينيبه (وزير الداخلية) أن يصدر أمراً باعتقال أى شخص، لاقترافه أعمالا معينة أو إبدائه أقوالاً خطرة، والأسباب التى يتأسس عليها الاعتقال، فى حقيقة الأمر، لدنة مطاطة، يمكن أن تتسع لأى فعل وأى قول ترى فيه السلطة تهديداً لها، أو لما تدعى أنه تهديد للمجتمع.
يكون المعتقل، وفقاً للقانون، أن يتظلم من أمر اعتقاله، بعد ثلاثين يوماً، أمام محكمة أمن الدولة العليا. ونتيجة لحركة الإعتقالات الواسعة، ورد الينا 90 تظلماً، ننظرها بوصفنا محكمة أمن الدولة العليا. قررنا نظر هذه التظلمات بعد الإنتهاء من الفصل فى القضايا العادية المحدد لنظرها ذلك اليوم. وبعد الإنتهاء من قضايا الجلسة، وزّعت مواد التظلم، وفحصّ كل واحد من الهيئة ثلاثين تظلماً، قرأناها جميعاً، فلم نجد أن الإدارة قد قدمت أى أوراق أو مستندات تبين أسباب الأعتقال.
سألت، بصفتى رئيس المحكمة، عن المتظلمين، فقرر لى حرس المحكمة أنهم لم يصلوا من مكان الإعتقال. استدعيت عميد الشرطة رئيس حرس شرطة المحكمة، وسألته عن المتظلمين فقرر أنهم لم يصلوا بعد، فطلبت منه إستعجال إحضارهم. ظللنا حوالى ساعة، وعميد الشرطة، يدخل إلى هيئة المحكمة فى غرفة المداولة، إما بناء على إستعجالنا له وإما من تلقاء نفسه، ليقررأن سيارة السجن خرجت منه (أى من السجن) بالمتظلمين، ثم ليقرر أن السيارة فى الطريق، ثم ليقول إن عطلاً لحق بالسيارة وأن إصلاح العطل لن يستغرق وقتاً طويلاً، ثم ليأسف لأن إصلاح العطل اتسع وأنه سوف يستغرق بعض الوقت. أثناء ذلك، كانت قاعة الجلسة تغصّ بذوى المعتقلين، وكانوا ndash; كما تبينا فيما بعد ndash; عددا كبيراً جداً ؛ جاءوا ليطمئنوا على المعتقل من أقاربهم أو معارفهم، وليعرفوا شيئاً عنه وعن أحواله وقد غاب عنهم أكثر من شهر دون أن يعرفوا شيئاً عنه.
وكان المحامون أثناء ذلك، يستأذنون فى الدخول الينا فى حجرة المداولة، وقد لاحظنا أن الكثير منهم كان فى عجلة من أمره، يرجو المحكمة أن تؤجل التظلم إلى دور مقبل، قولا بأن المتظلم لن يحضر، وأنه لا يرى فى الإنتظار فائدة، ويهمه أن يعود إلى بيته، بدلا من الإنتظار دون جدوى (كما كان الكثير يقول).
محاكم الجنايات ومحاكم أمن الدولة العليا تنعقد عشرة أيام فى كل شهر، فيما يسمى دور الإنعقاد. أما باقى أيام الشهر فعشرة أيام لتحرير أسباب ما صدر من أحكام خلال دور الإنعقاد، وعشرة أيام لقراءة وتلخيص قضايا الدور المقبل، للشهر التالى. لهذا فإن هذه المحاكم عندما تؤجل دعوى أو تظلماً فيكون التأجيل عادة لدور مقبل أى لمدة شهر على الأقل. وإذا كان المعتقل قد أمضى ثلاثين يوماً فى إعتقاله بحكم القانون، فلماذا يقضى أياماً أكثر لأن الإدارة لم تحضره إلى المحكمة التى تنظر تظلمة أو لأنها لم تقدم الأوراق الدالة على أسباب التظلم؟ وعلى ذمّة من يكون بقاء المعتقل فى معتقله دون قرار من أى سلطة بذلك؟ وهل يجوز أن يمتد اعتقال المعتقل شهرا وشهرا، حتى ستة شهور، كما علمت فيما بعد، بتعمد الإدارة عدم إحضارة إلى المحكمة ndash; وهو واجبها، أو عدم تقديم المستندات التى تحوى أسباب إعتقاله ndash; وهو سندها.
طلبت رئيس حرس الجلسة وكبير الحجاب، وأمرتهما بإغلاق البابين المتصلين بغرفة المداولة، الذى يصلها بساحة المحكمة، للدخول والخروج، والذى يفتح على قاعة الجلسة لدخول الهيئة إلى هذه القاعة والخروج منها إلى غرفة المداولة. وأمرتهم ألا يسمحوا لأى فرد مهما كان بالدخول الينا فى غرفة المداولة. وطلبت من زميلىّ المستشارين أن نعيد قراءة قانون الطوارىء لنستجلى نقطة واحدة،هى: هل لا يجوز للمحكمة أن تفصل فى التظلم إلا فى حضور المعتقل المتظلم، أم أنه يمكنها أن تفصل فيه دون حضوره. تأكد لنا أنه لا يلزم إحضار المعتقل إلى المحكمة لتفصل فى تظلمه، وأنه يمكنها أن تفصل فى هذا التظلم دون حضوره.
استقر بنا الأمر على نظر التظلمات جميعاً، ولما كانت كلها خلوا من أوراق تفيد بيان أسباب الإعتقال فقد انتهت المداولة إلى الإفراج عن جميع المتظلمين. لم يكن فى ملف كل تظلم إلا (الرول) القائمة التى تكتب عليها المحكمة أحكامها وقراراتها وأوامرها، فكتبت ndash; بإعتبارى الرئيس ndash; على كل قائمة من قوائم التظلمات التسعين قراراً بالإفراج عن المعتقل فوراً، ثم مهرت القرار بتوقيعى ووقع عليه عضوا اليمين واليسار، على التوالى.
طلبت كبير الحجاب وطلبت منه إعداد قاعة الجلسة لتدخل اليها هيئة المحكمة، ولما عاد بعد حوالى عشرة دقائق ليقرر أن القاعة قد تهيأت لدخول المحكمة، ارتدى كل منا الردنجوت الأسود ووضع الوشاح الخاص به، ووقفنا وراء باب الدخول إلى القاعة بترتيب الأقدمية الرئيس ثم عضو اليمين فعضو اليسار ثم وكيل النيابة. طرقت على الباب بمؤخرة قلمى ثلاث مرات، ففتح كبير الحجاب باب الدخول إلى القاعة، ثم صرخ بصوت جهوري قائلاً: محكمة!! فوقف الجميع، ثم جلسوا بعد أن جلست هيئة المحكمة.
نظرت إلى القاعة فوجدت قفص المتهمين خالياً، نظراً لعدم إحضار المتظلمين، كما لاحظت أن المحامين احتلوا المقاعد الأمامية فى القاعة ndash; وهو تقليد قضائى ndash; كما لاحظت أن الجلسة والممرات قد امتلأت بجمهور عريض منه الشيوخ والمرضى والسيدات والأطفال وكلهم ينظرون إلىّ، لأن مصائرهم تتعلق بما سوف أنطق به.
كنت قد قررت إلقاء بيان شفهى (statement) يتضمن وجهة نظر المحكمة، لأن قرارات الحْبس والافراج تصدر دون أسباب تكتبها المحكمة، ولأن أغلب الناس لا تقرأ الأسباب ولا تـُعنى بها. قلت بصوت عال: لقد تبين لهيئة المحكمة بعد الإطلاع على قانون الطوارىء أنه لا يلزم حضور المتظلم للفصل فى تظلمه، ومن ثم فقد قررت المحكمة نظر جميع التظلمات، سواء أحْضرت الإدارة المتظلم أم لم تحضره. وبالإطلاع على جميع ملفات التظلمات تبين لهيئة المحكمة أنها كلها خلو من أى إفادة توضح وجهة النظر فى إعتقال المتظلم، ولهذا أمرت المحكمة بالإفراج عن جميع المتظلمين (المعتقلين) فوراً.
ضجت القاعة بالتصفيق والهتاف الذى كان يحيىّ العدالة، وكان المحامون يقولون بصوت عال متكرر: هكذا يكون القضاء!! وظل الهتاف يتزايد ويعلو ويشتد حتى صار مظاهرة من داخل بهو المحكمة حتى ميدان باب الخلق. ولما حاولنا الخروج لركوب السيارات الخاصة بنا، وجدت أن عميد الشرطة رئيس الحراسة قد صفّ لنا على الجانبين رجال شرطة يصلوا حتى الباب الرئيسى للمحكمة، فقلت له بصوت عال ما هذا؟ قال باحترام شديد: لحراسة هيئة المحكمة. قلت له بذات النبرة وبحزم: اصرفهم جميعاً، فإن حماية القاضى فى عدالته، وإن عدالتنا تحمينا، فصفق الجمهور الذى كان يملأ البهو وظل يهتف quot; يحيا العدل quot; quot; تحيا العدالة quot;. سرت بين الجمهور وسار ورائى زميلاى دون أى حراسة، لكن الجمهور كان يفسح لنا ممرا للسير، وهو يدعو لنا بفرح وسعادة. وكانت هذه اللحظة من أسعد لحظات حياتى، أن يشعر الجمهور بقوة العدالة، وبمعنى العدل.
تلقف المحامون وجهة نظر هيئة المحكمة، وترافعوا على أساسها أمام المحاكم الأخرى التى تنعقد فى غير دور انعقادنا، فأخذت بها جميع المحاكم وصارت قاعدة.
لم يكلمنى أحد من رجال السلطة فى ذلك أبدا، لكن رئيس محكمة استئناف القاهرة كلّم عضو اليمين، وقال له انتم قررتم قاعدة بالإفراج عن جميع المعتقلين، مع أن وضع البلد سىء، ويقتضى تأييد الإعتقال. قال لى المستشار عضو اليمين أنه رد على رئيس المحكمة فقال له: ولماذا لا تكلم فى ذلك الرئيس سعيد العشماوى ؛ أضاف زميلى أن رئيس المحكمة فزع جداً، وقال له: هو فيه حد يقدر يكلم سعيد العشماوى فى شأن قضائى؟ وكان هذا أفضل وسام لى، أن يعرف الجميع أن ميزان العدالة فى يدى عاليا وبقوة، لا يحيد ولا يميل.
قال زميل يداعبنى: كيف تفرج عن أعضاء من الجماعات الإسلامية ومن الإخوان المسلمين وهم يحملون لك أشد العداوة وألد الخصام لمجرد أنك كنت تمايز بين الإسلام دينا وبين السياسة والحزبية، فاعتبروا انك تهاجم الإسلام، ولم يقرأ لك أكثر الذين يعادونك ويخاصمونك، وقد يحمل عليك السلاح واحد ممن تفرج عنهم فيعتدى عليك وربما اغتالك. قلت له باسما: لو نظرت إلى المسألة بمنظارك لما كنت قاضياً محايداً، وإنما كنت خصماً لهم وعدوا، ولا ينبغى أن يحمل القاضى لخصم أو متهم أمامه عداوة أو خصومة، فبئس مجتمع يكون فيه القاضى خصما للمتهم أو للمتقاضى. أنا لا أنظر للمسألة بمثل نظرتك، ولو كان الأمر كذلك لتعين علىّ أن أتنحى عن الفصل فى تظلمات المعتقلين. وجهة نظرى أن المعتقلين أسارى، وفى يدى فك أسرهم، فلم أفهم المسألة على غير هذا الفهم السليم؟
لم تستطع الإدارة أن تفعل أى شىء، لكن محكمة استئناف القاهرة بعد عامين أنشأت دائرة خاصة للنظر فى التظلمات من أوامر الاعتقال حتى تنزعها من اختصاصى، ما دمت غير قابل للضغوط. وبذلك عادت ريمة إلى عادتها القديمة!

[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه