-1-

يُمثِّل عالم الاجتماع المرموق وداعية حقوق الإنسان المصري سعد الدين إبراهيم، حالة جديدة من حالات اضطهاد المثقفين العرب في مطلع القرن الحادي والعشرين. فعلى مرِّ التاريخ اضُطهد المثقفون العرب

سعد الدين إبراهيم

اضطهاداً كبيراً. وكان حالهم كحال كثير من المثقفين في الأمم الأخرى في القرون المظلمة، والأزمنة المتخلفة.

سعد الدين إبراهيم، يعيش اليوم على أرصفة العالم مشرداً لخشيته من العودة إلى وطنه مصر، وتعرّضه للسجن والتعذيب، كما سبق له في مطلع هذا القرن، وحُكم له بالبراءة بعد ضغوط دولية كبيرة من قبل جمعيات حقوق الإنسان، والجمعيات الغربية المدافعة عن حرية الرأي، وكرامة المثقفين.

-2-

لم يقترف سعد الدين إبراهيم جريمة كبرى أو خيانة عظمى، بحق وطنه الذي يحبه ويُخلص له، كما يحبه ويُخلص له أي مواطن مصري آخر. وكل ما فعله

سعد الدين إبراهيم، أنه كمثقف متميز، وناشط سياسي ليبرالي، ومفكر وعالم اجتماع مرموق، أن أتيحت له الفرصة في quot;مؤتمر المعارضين من الشرق الأوسط وأوروبا الشرقيةquot; الذي عُقد في العاصمة التشيكية quot;براغquot; في يونيو/حزيران الماضي 2007 للاجتماع مع الرئيس بوش. ودار بينهما حديث قصير حول الإصلاح السياسي في مصر. وكانت وجهة نظر سعد الدين إبراهيم التي أبلغها لبوش، أنه لا بُدَّ من ربط المساعدات الأمريكية لمصر وباقي الدول العربية ببرنامج زمني للإصلاح السياسي. وأن الرئيس الأمريكي أبدى استعداداً لذلك. وقال سعد الدين إبراهيم بعد ذلك في تصريحات صحافية مختلفة، أنه قال للرئيس الأمريكي: quot;أنت تطلب مقابلاً من أجل الشعب المصري. وهذا ما يطالب به المصريون أنفسهم من إصلاح هم في حاجة إليه. وبالتالي أنت تطالب بما يطالب به المصريون.quot; ومن المعروف أن مصر تحصل على ما يصل إلى ملياري دولار مساعدات اقتصادية وعسكرية من الولايات المتحدة، منذ توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979، أي أنها حصلت حتى الآن على أكثر من خمسين مليار دولار.

فأين الخيانة العظمى في ذلك؟
بل أين الجائزة الكبرى على ذلك؟

ومِنْ أجل مَنْ فعل سعد الدين إبراهيم هذا، ولقي نتيجته هذا العناء والعذاب والتشرد وبُعده عن عائلته ووطنه ومركز ابن خلدون للدراسات الاجتماعية الذي يرأسه والذي خطط تنظيم quot;التكفير والهجرةquot; لنسفه بسيارة مفخخة كما كشفت التحقيقات قبل أيام؟

هل من أجل طغمة الحكام العرب، ولصالح

توريث أبنائهم، والسكوت على فسادهم المالي والسياسي، أم من أجل دفع عجلة الإصلاح السياسي العام في العالم العربي، وفي مصر خاصة؟

ألم يكن ما قاله سعد الدين إبراهيم للرئيس الأمريكي جهراً وعلانيةً وليس سراً، وتمت إذاعته ونشره في مختلف وسائل الإعلام المصرية والعربية والعالمية؟

ألم يكن ما قاله سعد الدين إبراهيم للرئيس الأمريكي هو لصالح الديمقراطية والإصلاح السياسي المتعثر في العالم العربي؟

ألم يكن ما قاله سعد الدين إبراهيم للرئيس الأمريكي ليس خاصاً بمصر وحدها، ولكنه لكل الدول العربية، التي تتلقى معونات من أمريكا؟

ألم يكن ما قاله سعد الدين إبراهيم للرئيس الأمريكي هو لصالح مصر الوطن، وصالح مصر المواطن، وضد مصر الحكم؟

إذن، لماذا لم يقف الشعب المصري إلى جانب سعد الدين إبراهيم المدافع عن حقوقه، وتقف كافة التنظيمات والأحزاب السياسية التي تطالب بالاصلاح السياسي في مصر إلى جانبه، وتدعوه للعودة إلى وطنه، وتتعهد بحمايته، وعدم اعتقاله وإعادته إلى سجنه الماضي؟

-3-

لقد خذلت النخب المصرية، وخذلت الأحزاب المصرية والتنظيمات السياسية المصرية سعد الدين إبراهيم.. هذا الصوت الثقافي السياسي الذي يصل إلى أسماع أكبر صُنّاع القرار في العالم.

ألا يستحق سعد الدين ابراهيم غضبة صارمةمن المثقفين المصريين والعرب، الذين يلوكون الكلام صبحاً ومساءً لوك النعاج للتبن.. غضبةٌ يقولون فيها كلمة حق، في هذا الطود الذي يُشرّف مصر أكثر مما تشرفها مئات المثقفين المزيفين؟

يا للعار..!

ويا لخيبة المحروسة، وبهية، وعروس النيل، وأم الدنيا، وأرض السلام، وهي تترك مثقفيها، ومفكريها الشرفاء، وحملة مشاعل حريتها وتقدمها وازدهارها مشردين على أرصفة العالم كالكلاب الضالة ndash; كما تصفهم الأنظمة العربية المارقة - دون أن يضمهم حضنها الدافيء، وقلبها الرحيم الكبير.

إن خذلان سعد الدين إبراهيم على هذا النحو من قبل المثقفين المصريين، ومن قبل المثقفين العرب، وعدم دفاعهم عنه، وعدم التنديد بتصرفات الحكومة المصرية الرامية إلى إعادة اعتقال سعد الدين إبراهيم وسكوتهم وصمتهم على تشريد سعد الدين إبراهيم على أرصفة العالم على هذا النحو وهم يتفرجون، ويتثائبون، ويهشون الذباب، ويحششون، وينعسون، وينامون خيانة عظمى من المثقفين العرب والمصريين خاصة.

-4-

كان من الممكن لسعد الدينإبراهيم لو كان لصاً أو خائناً أو مزيفاً أو بائع كلام، أن يقدم للرئيس الأمريكي في quot;مؤتمر براغ للمعارضين من الشرق الأوسط وأوربا الشرقيةquot; صورة وردية زاهية - على طريقة الإعلام العربي الرسمي - للديمقراطية والحريات العامة في مصر، وإلى المساواة التامة غير المنقوصة بين المسلمين المصريين والأقباط، وأن ينال على هذه الشهادة الكاذبة والمزيفة quot; قلادة النيلquot; من الرئيس مبارك.

كان من الممكن لسعد الدين إبراهيم أن يكون في الخارج لسان حال الحزب الوطني الحاكم في مصر، وداعية من دعاة التوريث لجمال مبارك، ويقدم شهادته المزيفة عن quot;واحة الديمقراطية والحرية في العالم العربيquot; سيما وأن الرأي العام الغربي وخاصة الرأي العام الأمريكي يثق به كثيراً، لكي ينال منصباً رفيعاً في أية حكومة مصرية قادمة.

ولكن سعد الدين إبراهيم المثقف العضوي الليبرالي الأصيل، أبى إلا أن يكون صوت الحق والحقيقة، ولو كان ثمن ذلك السجن والتعذيب والتشرد على أرصفة العالم.

-5-

إن النفي الطوعي لسعد الدين إبراهيم وتهديده بإلقاء القبض عليه، وسجنه، فيما لو عاد لوطنه، يعتبر سُبّة

في وجه الحكم المصري، وهو يثبت أن الحكم المصري الحالي هو حكم ديكتاتوري استبدادي بامتياز.

فقد تعرّض أحرار مصر

وسياسيّوها في الماضي للنفي ليس من قبل أنظمة حكم ديمقراطية، ولكن من قبل أنظمة حكم ديكتاتورية على شاكلة النظام المصري الحالي.

فنفى الطاغية الخديوي توفيق الزعيم أحمد عرابي إلى سيشل في 1881.

وفي عام 1881 نفي الديكتاتور الخديوي توفيق جمال الدين الأفغاني من مصر.

ونفى الطاغية توفيق الزعيم أحمد عرابي إلى سيلان (سري لانكا حالياً) في 1882.

ونفى الخديوي الديكتاتور توفيق محمد عبده إلى لبنان في 1882.

كما نفى المستعمرون الانجليز مصطفى كامل وسعد زغلول ومحمد فريد وغيرهم في 1919 إلى جزيرة مالطا.

وكذلك نفى المستعمرون الانجليز سعد زغلول ومصطفى النحاس ومكرم عبيد وعاطف بركات وفتح الله بركات إلى عدن عام 1922.

وفي 2007 نفى الديكتاتور حسني مبارك من مصر سعد الدين إبراهيم، وشتته في بقاع الأرض.

وكل هؤلاء كانوا من النافين الديكتاتوريين الطُغاة العُتاة، وكان المنفيون من الوطنين الأحرار هم النُقاة التُقاة.

-6-

لم يكن المفكر لحر والناشط السياسي وأستاذ علم الاجتماع سعد الدين إبراهيم بأقل قيمة ثقافية وعلمية وسياسية من محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وغيرهما.

ولم يكن سعد الدين إبراهيم بأقل وطنية وحباً لمصر من أحمد عرابي، ومكرم عبيد، ومصطفى النحاس، ومحمد فريد وغيرهم.

فإذا كان لكل هؤلاء سجلهم التاريخي الفاخر في الوطنية واستقلال مصر، فإن لسعد الدين إبراهيم سجله العظيم أيضاً.

فسعد الدين إبراهيم، يعادي الحكم الديكتاتوري، والمجتمع العسكري، ونظام العسكر، والدولة الشمولية، والدولة الدينية، والسياسية الأمريكية في المنطقة.

وهو يناصر الحرية، والديمقراطية، والحكم المدني، ومجتمع المؤسسات المدنية، ويدعو إلى تداول السلطة في العالم العربي، وإلى التعددية الحزبية، وشرعية المعارضة. ويناصر حقوق الأقليات مناصرة تامة. ويجوب عواصم العالم خطيباً ومحاضراً عالماً على منابره، داعياً إلى الدفاع عن حقوق الإنسان، وإطلاق حرية المرأة العربية المستعبدة كالرجل أو أكثر.

أفلا يستحق هذا الرجل مكانة رفيعة في تاريخنا الثقافي والسياسي؟

أم يستحق السجن والتعذيب والتشرد خارج وطنه وبعيداً عن أهله وطلبته وجامعته ومركزه الثقافي؟

ألا بئس ما نحن فاعلون.

-7-

إن الحكم المصري الديكتاتوري غير ملوم على ما يفعل بأحرارمصر، وعلى رأسهم سعد الدين إبراهيم، بفعل تركيبة الحكم الديكتاتورية.

فليس بعد الديكتاتورية ذنب.ولكن اللوم كل اللوم على هذه القطعان من المثقفين، التي لم تكتب حتى الآن كلمة واحدة، ترفع فيها الصوت احتجاجاً على طغيان واستبداد الحكم المصري، ومعاملته لمفكر كسعد الدين إبراهيم.

ولو حصل لمثقف غربي في أمة واعية وحرة كما حصل لسعد الدين إبراهيم لقامت الدنيا ولم تقعد، حتى ينال سعد الدين إبراهيم الحماية اللازمة والحصانة التامة.

إن محنة سعد الدين إبراهيم سوف تنتهي قطعاً بالضغط الخارجي فقط على الحكم المصري، كما انتهت محنته الأولى قبل سنوات.

فلا حياة لمن تنادي من المثقفين المصريين والعرب، وما لجرح بميتٍ إيلام.

والأنظمة العربية في مثل هذه الحالات quot;تخاف ما تختشيشquot;، ولا يردعها ولا يضعها على طريق الصواب والصراط المستقيم غير تلك العصا الغليظة!

السلام عليكم.

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه