فى التقدير القانونى السليم، لا يوجد ما يسمى بجرائم الرأى. فالرأى حر ما دام لم يتضمن سباً أو قذفاً، وما دام لم يحرض أو يساعد على إرتكاب جريمة. فالرأى يواجَه بالرأى، والكلمة تـُرَدّ بالكلمة؛ أما إذا انحرف الرأى أو انحدرت الكلمة إلى ما يشكل الجرائم المنوه عنها، فإن التأثيم يكون على ما احتواه وانطوى عليه الرأى من جريمة، وهو أمر يضع فاصلاً محددا ودقيقاً بين الرأى والجريمة، بين الكلمة والأثم، بين حرية التعبير وشرط ألا ينزلق التعبير إلى السب أو القذف أو التحريض على الجريمة.

وولاية القضاء تقتصر على الفصل فى وقائع (facts ) محددة، ولا تمتد هذه الولاية ( jurisdiction ) إلى الحكم على الآراء، لأن مؤدى ذلك أن يكون على القاضى أن يبدى رأياً بالمخالفة للرأى الذى دانه، وهذا بذاته هو المحظور فى القضاء، والممنوع على القاضى أن يقع فيه، عمدا أو عفوا.

فى كتابى الرابع ( حصاد العقل ) المكتوب عام 1972م والمنشور عام 1973م قسم عن تقويم ( تقييم ) الفكر الإسلامى، وقسم آخر عن تقويم ( تقييم ) الفكر الغربى. وفى هذا القسم عرضت تاريخ الإشتراكية، وادعائها الشيوعية، وأثبت أنها لم تعمل على الإشتراكية ولا وصلت إلى الشيوعية، وإنما انحرفت بها النظم لتصبح رأسمالية الحزب أو رأسمالية الطبقة الحاكمة، وهى ضرب من الرأسمالية أسوأ من الرأسمالية التى تدعى محاربتها، ذلك بأنها تضيف إلى مساوىء تلك الرأسمالية، عيوب البيروقراطية ومساوىء الدكتاتورية. وتنبأ الكتاب بسقوط ما يسمى خطأ بالإشتراكية خلال سنوات قليلة، وصح التوقع إذ سقطت النظم التى كانت تدعى الإشتراكية إعتباراً من عام 1985م. ولا يعنى ذلك موافقتى على الرأسمالية، لكنى كنت أبدى الرأى فى النظم الإشتراكية التى تبنتها أغلب نظم الحكم فى العالم الثالث، لكى تصبح هى أو الحزب أو الطبقة الحاكمة الرأسمالى الوحيد، فتصل بالشعوب إلى ما تحت خطوط الفقر وحرية التعبير وتداول السلطة، وهكذا.
عام 1990م عرضت على محكمة أمن الدولة العليا التى كنت أشرُف برياستها شق من قضية كانت مشهورة باسم قضية التنظيم الشيوعى. وكان نصف المتهمين قد أدينوا وصدق الحاكم العسكرى على الحكم، ونفذ عليهم فأودعوا السجون. وكان المنظور أمامنا ما يشمل النصف الباقى من المتهمين، والذين كانوا قد غابوا عن المحاكمة، فسقط الحكم الغيابى بتسليمهم أنفسهم، وتعين محاكمتهم من جديد كما هو الشأن فى جرائم الجنايات عموماً، سواء كانت جنايات عادية أم كانت من جرائم أمن الدولة العليا. كالعادة، قرأت القضية بعناية، وحررت تلخيصاً لها. وكان الإتهام هو: اتجاه المتهمين جميعاً إلى العمل بالقوة على تغيير النظام الإجتماعى والسياسى باعتناقهم مبادىء الماركسية والسعى إلى نشرها وتطبيقها، وهو إتهام يقوم على مواد قانونية كانت قد أدخلت على قانون العقوبات المصرى عام 1946م إبّان رياسة إسماعيل صدقى للوزارة، وقبل اتجاهه لمفاوضة وزير خارجية بريطانيا ارنست بيفين، قصد افزاعه بانتشار الماركسية فى مصر للحصول منه على أفضل شروط لمعاهدة تعقد بين بريطانيا ومصر، تضع مصر فى جبهة مع العالم الغربى لمحاربة الماركسية. وبالفعل استطاع إسماعيل صدقى بدهائه الحصول على مشروع معاهدة صدقى بيفين، وكانت تتضمن نصوصاً يمكن أن تفسر لصالح مصر، غير أن الطلبة والعمال الكارهين لصدقى تظاهروا بشدة ضد مشروع المعاهدة، فسقط وسقطت وزارة إسماعيل صدقى.
يعرف المحامون والمتهمون عنى أنى معارض للماركسية، وقرأ بعضهم نقدى لها، وتوقعى سقوطها؛ لكنهم لم يردّونى عن نظر الدعوى ولا طلبوا منى التـّنـَحى عن نظرها، لأنهم كانوا موقنين بأنى فى الوسط لا أميل إلى اليمين الجانح ولا اليسار الجامح. وأنى ndash; فضلاً عن ذلك ndash; لا أخلط بين الرأى والحكم، ولا أتخذ من آرائى سبباً لإيجاد خصومة مع متهم أيا كان؛ وإنما أتحرى العدل دائماً.
بعد مرافعات استمرت زهاء أسبوع، قضت المحكمة ببراءة جميع المتهمين الذين كانوا يحاكمون أمامها، وكان من نصيبى كتابة الأسباب، فأكدت فيها على حرية الرأى مهما كان، وأن الرأى يـُناقض بالرأى، ولا يُحارب بالقانون أو الأمن أبدا. كما وأن رأى المتهمين، حتى وإن تضمن تغيير النظام الإجتماعى أو السياسى بالقوة، فإنه لا يكون مؤثما ما دام لم يُدخل القوة فى حيز التنفيذ، وأنه لا يمكن لشخص أو مجموعة من المدنيين أن تستطيع تغيير النظام الإجتماعى أو السياسى بالقوة مع وجود الجيوش المنظمة والأسلحة الحديثة تحت سيطرة النظم السياسية القائمة؛ فالجريمة مستحيلة بالنسبة اليهم جميعاً.
صّدق الحاكم العسكرى على هذا الحكم، ربما لوجاهة أسبابه، وبذا انقسم المتهمون فى قضية واحدة إلى محكوم عليهم بالسجن وهم ينفذون العقوبة التى صدق عليها الحاكم العسكرى، بينما زملائهم فى نفس القضية يتمتعون بالحرية نتيجة الحكم الذى أصدرناه وصدق عليه الحاكم العسكرى. لجأ الدفاع إلى القضاء الإدارى ليحل هذه المناقضة الواضحة فحكم بعدم اختصاصه ولائيا بنظر الدعوى، ومن ثم لم يجد المحامون أمامهم إلا الحاكم العسكرى العام فقدموا إليه تظلماً يتضمن تاريخ القضية والمناقضة التى حدثت نتيجـّة الحكم بادانة بعض المتهمين والحكم الصادر ببراءة الآخرين، وكلاهما صدق عليه الحاكم العسكرى.
ولأول مرة فى التاريخ قـَبـِل الحاكم العسكرى التظلم وألغى قراره الأول بالمصادقة على حكم الإدانة، وأمر ببراءة المتهمين المحكوم بإدانتهم مساواة بزملائهم، وليرفع التناقض ويزيل التضارب الذى حدث نتيجة صدور حكمين أحدهما بالإدانة، وثانيهما بالبراءة فى قضية واحدة، اتهم فيها الجميع باتهام واحد.
ذات ضْحى كنت أسير فى شارع طلعت حرب ( سليمان باشا سابقاً ) متجهاً إلى دار القضاء العالى، وأمام سينما متروبول وجدت شخصاً يندفع نحوى بسرور ويسلم علىّ بشدة، فسألته عن شخصه، فقال أنت لا تعرفنى، ولكنى تمتعت بالحرية بفضلك وعدلك. وحكى لى القصة، فتبين أنه كان ضمن المجموعة التى كانت تنفذ حكم السجن، وأنه حصل على البراءة بسبب حكمى. وقال لى بحرارة: فتحت بيوتنا، الله يعمر بيتك.
أصابتنى سعادة روحية غامرة. ما أفضل أن يُعرف الشخص بالعدل، وأن يرى نتيجة عدلة.

[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه