ينخرط الإنسان في تبني الفرضيات والتحيزات شاء أم أبى، عرف ذلك أم لم يعرف. أن يعيش المرء في هذا العالم، فإنه من الطبيعي أن يتقمص فرضية قد يراها الأصلح والأهم، لكنها ليست السليمة والصحيحة دائما.فالبيئة والمحيط الاجتماعي والتنشئة والتربية الأسرية، تساهم في تشكيل الرؤية، لكن الناس وخلال تفاعلهم في المجتمع تغيب عنهم تحديد العوامل والمؤثرات التي ساهمت في تشكيل رؤيتهم، وعلى الرغم من التأثير الكبير الذي تلعبه على صعيد الصورة الكلية عن الذات والعالم، فإنها تبقى عرضة للتغير، باعتبار التأثيرات التي تبرز على صعيد تحولات الذات، أو التغيرات الكبرى على صعيد العالم.
مفهوم رؤية العالم World View أو ما يصطلح عليه أحيانا بالرؤية الكونية، يقوم على الوعي بـ؛ موقع الرؤية، إنه (العالم كما يبدو -العالم في ذاته) كما قال إمانويل كنت 1804. وهو (تفسير العالم والتفاعل معه،) كما أضاف ديلتاي 1911، هذا باعتبار أن الرؤية تتضمن (أصلا ومعرفة).
الوقوف عند الصورة الكلية تلك التي يتخذها المرء عبر موجهين الذاتي والموضوعي، عن الذات والعالم، فيما تبقى المحددات خاضعة لتأثيرات:
1. الصورة الكلية عن الذات والعالم.
2. زاوية النظر.
3. البيئة النفسية والاجتماعية.
4. المرجعيات الفكرية واللغوية.
كيف يمكن تقويم الرؤية، وما هي المدركات المحيطة بتشكيلها وتكوينها؟ هل يمكن التوقف عند مجال الثبات أم التغير حولها، هذا بحساب أنها مكون فردي وما يمكن للمؤثرات التي يعيشها الفرد أن تتبدى حاضرة في مواقفه وطريقة تفكيره، فيما يكون الكامن والداخلي حاضرا وفاعلا، باعتبار أن حالة التشكل تقوم على الظرفية التي تحيط بالمرء، ومن هذا فإن الأغلب من الناس لهم رؤيتهم للعالم، ولكنهم يجهلون الوسيلة التي تم بها هذا التشكيل.، إنها النشأة و أسلوب التعليم والثقافة الرائجة والمؤثرات القائمة التي تعمل على حفز الرؤى والتصورات، حتى تبرز للعيان تلك الرؤية التي يتقمصها الفرد، ويعمل للدفاع عنها بوصفها أصلا لا يمكن الحياد عنه، فيما تضيع فواصل الصحيح و الخاطئ، وسط سيادة قوة الهيمنة والتأثير الذي تمارسه على عقل المرء، باعتبار ((الانحياز)) الذي يتسلل في صميم الذات على الرغم من الإعلان والمجاهرة بنبذه واعتباره شرا مستطيرا، يجب الخلاص منه.إنها الرؤية التي تتخذ موقعها الراسخ في الذات، شاء المرء أم أبى.من أجل فهم العالم
من واقع تفاعل الفرد مع محيطه، تتبلور طريقة التفسير الخاصة، باعتبار حالة التأثير التي تتركها المعتقدات السائدة في بيئة ما على نمط التفكير، وبالتالي تتضح معالم الصورة الإنهائية للعالم، إنه الإطار الوظيفي الذي يسعى نحو تقديم الفهم العام لكل شيء، من خلال التفسير والفهم، سعيا إلى استخدامه في رسم مسار طريقة النظر إلى العالم،، وهو التفعيل للمسلمات والبديهيات والمعتقدات السائدة، والحث لمجال الإرادة والوعي، فيما يبقى هذا الوعي مرهونا بجملة من المحددات، إن كان على صعيد المضمر و المعلن، طبيعة الوعي السائد، والنظام الفكري الذي يتفاعل فيه الفرد ولمجتمع والعالم. إنه التعدد في الرؤى والذي يكون تبعا لاختلاف الأفراد والثقافات والأزمان والحضارات.من أجل تفسير العالم
واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، لكن الخلافات بين الناس كلها تقوم على وظيفة التفسير والتحديد، ذلك الذي يكون بمثابة البوابة المشرعة نحو الصدام بين الأفراد والجماعات، إنه الوعي المختلف وأهمية ترصده، عبر منهج رؤية العالم، من خلال الاستناد إلى عملية التحليل للأفراد والمجتمعات والمواقف والأفكار. و دراسة جوهر الممارسة العلمية، الساعية نحو فرز المشكلة، وترصد القيم الخاصة بالرضا والقبول وعلى صعيد المجمل من الحقول المعرفية، سعيا للوصول إلى سؤال الهدف والغاية الذي ظل ويبقى يشغل الأفراد والمجتمعات.فرؤية العالم تقوم على الرؤية الكلية الساعية إلى دراسة التفاصيل، من خلال تحديد الدلالات والعمل على ترسيخ مجال العقل عبر تمييز ملامح العلاقة بين الفعل ورد الفعل.هذا بحساب أن الرؤية لا يمكن لها تقوم على طرفية محددة، بقدر ما تبرز أهمية العمل على توسيع المجال، انطلاقا من التعددية وتنوع الموجهات الثقافية والمؤثرات العقلية، والاختلاف المعرفي، والتقاطعات في القيم والأخلاق بين المجتمعات، باعتبار النسبية التي تقوم عليها.تمثيلات الوعي
رؤية العالم ما هي إلا تمثيل للنشاط الجمعي، ولكن بوعي فردي، إنها الفرز المعمق والدقيق للتفاصيل التي يزخر بها الواقع، إن كان على صعيد وعي الأفراد ونشاط الجماعة، ولعل السؤال الأكثر حضورا يبقى كامنا في الطريقة التي يمكن التوفيق فيها بين الرؤية الفردية والرؤية الجماعية للعالم؟ فنسق التسلط يجعل من حضورية فاضحة لثنائية المعلن والمسكوت عنه، باعتبار التفاعل القائم داخل بنية الإنتاج والتبادل، فالمرء وعلى الرغم من قناعاته الخاصة، إلا أنه يبقى محكوما للخضوع لهيمنة النسق السائد، وإلا فإنه يقع في دوامة من الصدام الذي يؤول في النهاية إلى خذلان و تراجع، باعتبار فقدان الانسجام مع المحيط السائد.رؤية العالم وتفاعلاتها عربيا
كيف يمكن تقويم مجال تفعيل مضمون رؤية العالم في المجال العربي، وعن رؤية يمكن الحديث عنها، في النظرة الجاهزة إلى الغرب، باعتبار الإرث الاستعماري وتمايزات القوة والقدرة على المبادرة، وكيف يمكن تحديد معالم الوعي؟ وهل يبقى مدار الصراع على السلطة حاكما للمجمل من النزعات والاتجاهات، وكيف يمكن ترصد مجال التغير لدى العرب؟ هل يقوم هذا الترصد برؤية عربية أم غربية؟! وإذا كان الغرب في تجربته التاريخية قد اعتمد على مبدأ الصدمة، فعلى ماذا راهن العرب، على التحديث؟ أم الحداثة، أم الغربنة؟ أم البحث في الأصول؟ وهكذا يبقى العرب، يعيشون لحظة المقارنات بين الذات والآخر، الوصفي والقيمي، الفردي والجماعي، الواقعي والمثالي، السياسي والحضاري.
يكمن السؤال الأهم في كيف ترى نفسك، هذا بحساب أنه المحدد لطبيعة الرؤية إلى الآخر، وهكذا يكون العرب عرضة لتداخلات الرؤى والتمثلات الناقصة، حتى أن صورة الأفندي على سبيل المثال، بقيت تنوء تحت ثقل التوزعات المتشظية، فتارة يتبدى الأفندي العثماني، وأخرى الأفندي الملتحق بركاب الغرب، وتارة أخرى تتمظهر الرؤى في شكل الصورة والهيئة والموديل الرائج. إنها الرؤى التي ما تنفك تظهر لتجد نفسها في وهدة من التناقضات والتصادمات والتوزعات، هذا باعتبار ما تفرزه من تأثيرات للنظام السياسي إن كان على صعيد استقراره أم اضطرابه، وسطوة الإعلام وتأثيره في تشكيل الذهنية، والأوضاع الاقتصادية وتراكماتها، فيما يبقى الفرد وسط هذه اللجة يعاني من الاقتطاع في الرؤية، فهو بالكاد لا يرى من نفسه إلا الجزء الميسور، فيما تبقى المزيد من الخبايا مغيبة وضائعة، باعتبار ذلك الإنسان الكائن العصي على الفهم.من الخصوصية إلى التعميم
تتجه رؤية العالم للبحث عن القواسم المشتركة، نحو خلق مجال مشترك يتفق عليه الجميع، لكن هذا الإجماع لا يمكنه الإفلات من تقمصات المركزية، مما يخلق بيءة مهيمنة جديدة، تسعى نحو فرض قيمها وتوجهاتها، باعتبار التوزع المباشر بين الصحيح والخطأ. وإذا كان التحفظ يتوقف عن الطبيعة المركزية التي تتبدى فيها رؤية العالم، إلا أنها تبقى ذات محتوى توافقي قوامه المسعى نحو التنمية وتقديم قيمة الإنسان بوصفه الغاية الأصل، والاعتراف بالتعددية والتركيز على أخلاقيات الحوار، فيما تبقى الصراعية ناشبة وعلى مختلف الأبعاد السياسية والقيمية وصراعات الزعامة والسيطرة والهيمنة.
إشارات و إحالات:
1. هندليس، مفهوم النظرة إلى العالم و قيمته في نظرية الأدب، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت 1986، ص 119.
2. صلاح فضل، مناهج النقد المعاصر، دار أفريقيا الشرق، 2002، ص51.
3. لوسيان غولدمان، البنيوية التكوينية والنقد الأدبي، ترجمة محمد برادة، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت 1986، ص 13.
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية
التعليقات