اضطرت بعض الشعوب إلى نقل أشواقها وتطلعاتها إلى حياة سياسية ديمقراطية، من أهم مميزاتها صحافة حرة وجريئة ومسؤولة، إلى عالم الانترنت، حيث تقل قدرة الأنظمة الشمولية على الرقابة والمصادرة، كما تكون كلفة الانتاج ميسورة في متناول الأغنياء والفقراء على السواء، ولعل في هذا الأمر ما يشفع للعولمة قليلا، خصوصا لدى أولئك الذين دوخهم غلاء الأسعار وردة رأس المال إلى شكله المتوحش كما كان.
والشعب التونسي، هو واحد من هذه الشعوب، فقد إلتجأت غالبية نخبه وقواه الإصلاحية والديمقراطية ذات المصداقية إلى صحافة الانترنت، بعد أن استعصى عليها الحل مع السلطات، التي استضافت قبل سنتين quot;القمة الأممية للمعلوماتquot;، أو بعبارة أوضح quot;القمة العالمية للانترنتquot;، رغم أن سلطة الانترنت الأممية قد صنفتها ضمن قائمة سوداء تضم عشرة دول في العالم، هي الأكثر رقابة ومصادرة للمواقع الالكترونية.
وفي تونس، توجد مئات العناوين من الصحف والمجلات، أكثريتها الكاثرة تعمل تحت يافطة الاستقلالية، لكنها في واقع الأمر شبه حكومية، بل إن في بعضها من التهليل والتكبير للنظام الحاكم، أكثر من صحف الحزب الحاكم نفسه، ولعل قارئ الصحف البريطانية أو الفرنسية أو الأمريكية، إن أقصر فهمه واقع البلاد على مقالاتها، سيتبادر إلى ذهنه أنها جحيم لا يطاق من كثر الوارد من المشاكل والانتقادات، خلافا للصحف التونسية التي ترى واجبها قاصرا على تعداد الإنجازات و بيان الثغرات، ثغرات الحاسدين والمغرضين بطبيعة الحال.
و للحكم التونسي قدرة عجيبة على تطويع أهل الصحافة الورقية، على الرغم من دعوة الرئيس بن علي في أكثر من مناسبة الصحافيين التونسيين إلى التحرر من عقدة الخوف والرقابة الذاتية، غير أن الصحافيين فيما يبدو، ملتزمون ndash;التزاما عقائديا- بالأوامر الباطنية لمن هم دون الرئيس، أكثر من إنصاتهم للأوامر الرئاسية العلنية، والذين بيدهم ربما، مفاتيح الحصص الإعلانية العامة والخاصة، ومفاتيح خزانات ورق الطباعة أيضا، فقد أقدمت السلطات التونسية على خصخصة كل شيء تقريبا، إلا القطاعات ذات الصلة بالحرية والديمقراطية، حيث بقيت ndash; وستبقى- رمزا للسيادة الوطنية، وجدارا منيعا تتكسر على عتبته كل الإرادات الشريرة الناكرة للمعروف.
صحافة الانترنت إذا، شكلت للأقلام التونسية الراغبة في إيصال أصواتها دون المرور على هيئة الرقابة والمصادرة، ملاذا غير آمن، لكنه ملاذ على أية حال، فبرزت في فضاء التونسيين الافتراضي العديد من المواقع التي تعنى بالشأن السياسي التونسي، متخصصة كليا أو جزئيا فيه، حتى وإن كانت في غالبيتها مسجلة في دول أخرى، غربية غالبا، وحتى وإن كان القائمون عليها مهاجرون منفيون، لاجئون سياسيون أو من المغضوب عليهم والضالين.
وقد تباينت المواقع السياسية التونسية في جودتها المهنية والفنية، وعكست في مجملها أوضاع المعارضة الرثة، وانقساماتها التي لا حد لها، كما كشفت أيضا عن أمراض الشخصية النخبوية التونسية المتعددة، حتى وإن كانت حاملة للواء الإصلاح والتغيير والديمقراطية، من نرجسية شخصية لا حد لها، واستعداد غير محدود للانحطاط الأخلاقي من خلال استباحة أعراض الخصوم، وتطويع المواقع الحزبية للهجومات الشخصية، واختلاق الأكاذيب والدس والتشويه والسب والشتم والتحطيم..إلخ، مما يعكس حقيقة أن الورم السرطاني الذي أصاب العقل السياسي العربي، لم يطل جهاز الحكم فحسب، بل طال أيضا جهاز المعارضة.
غير أن التحليل المتوازن للصحافة الالكترونية التونسية، يقتضي حتما التنويه بتجربة، أعلن أصحابها quot;غير المعلنينquot; عن توقفها قبل أيام قليلة، و لا أخفي على القارئ الكريم مدى الشعور بالألم والإحباط والحسرة الذي انتابني، وأنا أقرأ رسالة quot;وداعquot; حزينة يستأذن فيها أهل النشرة قراءهم بالانصراف لظروف قاهرة ألمت بهم، بعد عطاء استمر سبع سنوات وسبعة أشهر متواصلة، دون توقف ليوم واحد، بما في ذلك الأعياد والإجازات، و السبعة في تونس لمن لا يعرف، رقم مقدس ومبارك.
لقد قدمت نشرة quot;تونس نيوزquot; الالكترونية، التي يجري إرسالها يوميا إلى ما يقارب الخمسين ألف مشترك (حسب مصادر شبه مؤكدة)، خدمة إعلامية مميزة لكافة التيارات السياسية والفكرية التونسية، الرسمية وغير الرسمية، ناقلة إلى قرائها أخبار الحكومة من المصادر الحكومية وغير الحكومية، وفاسحة المجال أمام كل الأقلام، القريبة من الحكم والمعارضة له، وعاكسة بأمانة كبيرة كافة أنواع الجدل الدائر بين مختلف الحساسيات، فقد جمعت دون تمييز يذكر بين الإسلاميين والقوميين والليبراليين والشيوعيين والمستقلين، وقدمت أهل الرأي والخبرة من المتحزبين وغير المتحزبين.
الثقافة السياسية التونسية، كما هو حال الثقافة العربية والإسلامية، لا تتوفر على تقاليد الصبر على الرأي المخالف وإتاحة الفرصة في الحيز المتحكم فيه أمام المختلف، ونادرا ما يوجد في الصحافة الورقية والالكترونية على السواء، موقع إسلامي يسمح لشيوعي أو ليبرالي الكتابة فيه، أو موقع ليبرالي حتى، يسمح لمن يعتبرهم ظلاميين وأعداء للحرية بالتعبير عن وجهات نظرهم من خلاله، وعموما فإن العربي ميال محب لسماع صوته أو أي صوت يشبهه، ويضيق صدره أيما ضيق بالآخر، غير أن القائمين على quot;تونس نيوزquot; كانوا مختلفين عن السائد فعلا، وشكلوا برأيي تجربة مميزة تقتدى، وحازوا على ثقة كافة أطراف المعادلة السياسية التونسية، إلا طرف الحكم بطبيعة الحال، وقلما يرضى هذا الطرف عن أحد.
وأحسب أن أهل الحكم التونسي، الذي قالت بعض المصادر أنه ربما يكون وراء الضغوطات التي أجبرت القائمين على النشرة لإيقافها، سيكون أول وأبرز المتضررين من هذا التوقف، فقد كانت لدى الأجهزة المختصة، وخصوصا الجهاز الاستخباراتي، فرصة يومية للاطلاع على خارطة المعارضة، أو بالأحرى المعارضات، وعلى جدل المعارضين وصراعاتهم الحقيقية والوهمية، الراقية والمسفة على السواء، أما بعد اليوم فستضطر هذه الأجهزة إلى الاجتهاد والمعاناة أكثر في جمع آراء المحبين والخصوم، وفي البحث أكثر في الفضاء الالكتروني وخارجه.
لقد ثبت أن القائمين على نشرة quot;تونس نيوزquot; هم من الإسلاميين، وربما كان بعضهم من أعضاء حركة النهضة الإسلامية المحظورة، غير أن للحركة ولبعض المجموعات التابعة لها، موقع رسمي ومواقع أخرى شبه رسمية، تشتغل في غالبيتها وفقا للآليات الحزبية المعروفة تونسيا وعربيا، حيث يرحب بأهل البيت والأصحاب وغير الأعداء، أما الخصوم فلا تحية لهم غير التجريح والتوبيخ والحط من الشأن والقيمة، و لهذا فقد جاء التميز لافتا، حيث لم توصد النشرة بابها أمام كل النقاد، ومن خلالها وجه عديد الكتاب، وأنا واحد منهم، أقسى أنواع النقد للنهضة ولشيخها راشد الغنوشي ولكل من واله وأيده.
إن احتضان quot;تونس نيوزquot; بكل نزاهة ورقي أخلاقي وحياد مهني، لمعارك عديدة بين أعضاء النهضة ومنتقديها، وبين أهل الحكم ومعارضيهم، وبين مختلف الفرقاء السياسيين والإيديولوجيين، حيث استمرت هذه المعارك أشهرا بل سنوات، جعلها مناطا لتقدير جميع التونسيين، ومحل ثقة تسعى كافة الأطراف تقريبا، بما في ذلك أطراف قريبة من الحكم، أو غير مغضوب عليها على الأقل، لنشر أخبارها وإعلاناتها إلى أعضائها أو المهتمين بأنشطتها، من خلالها، وهو أمر نادر الحدوث تونسيا وعربيا.
و إن من مميزات quot;تونس نيوزquot; أنها كانت عملا تطوعيا صرفا، لا يتقاضى القائمون عليه أي قرش من أي طرف، وهو الحال الثابت من تحقق أمور ثلاثة، تواضع التصميم من الناحية الفنية، والأهم الاستقلالية والمهنية، و كذلك نكران الذات، فلحد الساعة لا أحد من القراء يعرف حقا أسماء المحررين أو المشرفين، و لهذا فقد استحق هؤلاء الفرسان تحية إكبار وإجلال من لدن قادة الحياة السياسية والفكرية، إذ لم أجد أحدا من التونسيين هذه الأيام، إلا وفي قلبه لوعة على قرار التوقف.
ربما لا يستطيع كثير من القراء العرب إدراك ما أردت أن أوصله من معاني بخصوص هذه الوسيلة الإعلامية المتميزة، غير أنني سأحاول إيجاز العبارة ختاما في كلمات تالية: لقد زرت طيلة السنوات السبع الماضية ما يقارب الخمسين بلدا، بمن فيهم تونس التي تمنع موقع النشرة، وكانت وسيلتي اليومية للتواصل مع أخبار بلدي هي هذه النشرة، التي تحدت الحظر عن طريق الإيميل، فكانت تقريبا أول quot;إيميلquot; أقراه آخر الليل أو أول الصباح، وكان كافيا شافيا، أعرف من خلاله إلى أي محطة وصل القطار التونسي، وما نوع البضاعة التي يحملها، ومن هم باعتها ومشتروها، كما أحاول جاهدا استشراف وجهته، لكنني غالبا ما أفشل...كانت quot;تونس نيوزquot; بيانا يوميا يصدره quot;إسلاميون من نوع خاصquot;، إسلاميون ديمقراطيون، نريد لهم الغلبة على كل الأنواع الأخرى من الإسلاميين، لأن الأوطان تحتاج في بنائها إلى كل أبنائها..تحتاج إلى من يجد في قلبه وعقله قليل من الأرض والتسامح لغيره المختلف عنه..سامح الله بعض البشر، وخصوصا الحكام منهم.
* كاتب تونسي

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية