شيء أقرب إلى اللعنة، هذا الذي يحدث قبل وبعد انقلاب حماس. تلتقي بأحد الأدباء المستقلين قولاً وفعلاً، وتسأله: لمَ لم نقرأ لك رأياً فيما حدث؟ فيردّ بعفوية مذهلة: وأنا مالي؟ تقول له: إذا كنتَ أنت غير معنيّ، فمن هو المعنيّ؟ يجيبك سريعاً: من أكلوا الثمرة كلها تقريباً، ولم يتركوا لأحدٍ شيئاً، هم الأولى بالدفاع عن مصالحهم. أنا لا مصلحة لي، لا في العهد السابق ولا اللاحق. أنا من الجالية الفلسطينية التي تعيش داخل فلسطين. هامشي ومُهمّش في العهدين، فلمَ أدافع عن شيء أو قضية خانها أول ما خانها أصحابها؟
المؤلم في جوابٍ كهذا، وبهذا المنطق، وضمن دفتر أحوالنا في الداخل الفلسطيني، أنه صادق ومفهوم تماماً. فالعهد السابق [بالتأكيد بإمكاننا إطلاق هذه quot; الصفة quot; منذ الآن على حكم فتح الذي استمرّ قرابة 14 سنة في القطاع، وانتهى أخيراً بفوز حركة حماس في الانتخابات ثم بسيطرتها العسكرية] هذا العهد لم يترك لمثقف وطني وإنساني حقيقي، أية فرصة لكي يدافع عنه. فهو عهد، وكما يعرف القاصي والداني، مثقل حتى التخمة بتركة هائلة من الفساد والإفساد. ويفتقر إلى الحدّ الأدنى من المصداقية سواء في الفعل أو في القول، إلى درجة أنّ مَن وقفوا إلى جانبه، هم تحديداً مِن فئة (المثقفين بدرجة موظفين)، أما غيرهم، ممن يحترمون أنفسهم وتاريخهم، وقبل ذلك عقل القارئ، فقد وقفوا بعيداً، ودفعوا الثمن عن طيب خاطر. فهذا عهد بائر جائر، متخلّف، ينظر إلى الوطن والقضية، من منظار المصلحة الشخصية فقط. ففلسطين عندهم هي مشروع استثماري، ومحطة إقامة عابرة، كالفندق، ما إن يحين الأوان لمغادرته، حتى يحزموا شنطهم ويغادروا دون أسف.

لقد بلونَا أنماطاً عديدة من هؤلاء الرجال والنساء. فلسطينيون بالمولد فقط، فلا انتماء حقيقياً، ولا عمل جادّاً، ومع ذلك، يا ويلك لو تكلّمتَ أنتَ عن خللٍ ما أو فضيحةٍ ما أمامهم، فحينها يزاودون عليك، بحناجر من أغلظ ما خلق الله ولم يخلقِ، لتطلُعَ في النهاية، ودون أن تدري، عميلاً لإسرائيل أو شيئاً من هذا القبيل!
الآن وقد وقعت الواقعة. الآن وقد حصل ما كنا نحذّر منه ونخشاه ونرى نُذره في الأفق [بل نكاد نلمس هذه النذر لمس اليد والعين] الآن يقول بعضنا، وبعد أن وقعت الفأس في الرأس: أنا ومن بعدي الطوفان. إنها ثقافة اليأس حدّ العدم وقد انتشرت انتشار النار في الهشيم. ثقافة عدمية شملت المثقف قبل غيره، والعالِمَ قبل الجاهل.

فلا فتح، عبر عقد ونصف من الزمن، ومن تجربة الحكم العيانية على الأرض، تصلح لأن تقود شعباً مثل شعبنا، ولا حماس بالطبع. فالأولى فاسدة والثانية تعيش خارج عصرها. أي: وسوى الروم خلف ظهرك رومٌ / فعلى أيّ جانبيكَ تميلُ!
إنني أتفهّم منطق صديقي الكاتب المستقل. لأنني مثله، لا أحترم سلطة كانت تصرف على وزارة الثقافة [ولا تنسوا أننا ما نزال نعيش تحت بساطير الاحتلال] إثنين في الألف فقط من موازنتها العامة. وحتى هذين [المسخوطيْن]، بعد خصم المرتبات وإيجار العقارات، فإنهما لا يكفيان لإقامة مؤتمر في السنة أو مهرجان! فماذا تفعل سلطة تحكم أربعة ملايين فلسطيني ونيّف، ب 150 ألف دولار مرصودة للثقافة في السنة. في السنة؟ يا للمسخرة. إنّ هذا المبلغ الأضحوكة، تصرفه السلطة ذاتها سفريات وبدلَ سفريات على واحد فقط من بين آلاف موظفيها الكبار! فانظر كيف تنظر سلطة في مرحلة تحرر وطني وفي مرحلة بناء دويلة من الأنقاض إلى الثقافة والمثقفين في بلادها.
لقد كانت سلطة عسكر وعسكريتاريا في الأساس. فهل يستطيع مثقف محترم، أن يدافع عن عسكر، فقط لأنّ عسكراً آخرين، أزاحوه وجلسوا مكانه؟ إنه ضدّ الاثنين معاً. والخلاف فقط في الدرجة لا النوع.

خلاصة القول: إنّ الشعب الفلسطيني ليس في أزمة بل في تيه. فالأزمة يمكن أن تعبر وتمرّ. لكن التيه تيه. شيء هو العماء ذاته. فقدان البصر والبصيرة. ضياع المشروع الوطني والثقافي. اللاأفق. النفق المعتم. عدم القدرة على الإنصات لذبذبات المستقبل، بعدما فقدنا القدرة على تلمّس وقراءة الحاضر _ على سماع صرخات الفعل المضارع.
هذا هو حالنا ومآلنا، مثقفين وغير مثقفين، بعد قرن من المآسي والعذابات.
لقد حصدنا الهشيم والهشيم لا غير.
فهل يمكن، منذ الآن والتوّ، أن نستبدل كلمة [الشعب الفلسطيني] بكلمة [حُصّاد الهشيم]؟
عن نفسي، سأعتصم بيأسي الأصدق من كل أمل، وسأستبدلها!

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية