زيارات العقيد معمر القذافي تشكل حدثا إعلاميا مهما، فنادرا ما تسير بشكل تقليدي دون مفاجأة أو مفاجآت مختلفة وهذا مهما تكن الدول التي يزورها، سواء تلك المجاورة الصديقة والمحبة للعقيد مثل تشاد والجزائر ومصر أو الدول الأبعد وبالأحرى الأقل حرارة في علاقتها معه. والمفاجآت التي رافقت زيارات القذافي عديدة ومتنوعة تمتد من مضمون الخطب التي يلقيها إلى طريقته في الحديث أو الامتناع عن الحديث، مرورا بالأزياء التي يرتديها أو تقلب أطواره، وصولا إلى بعض المواقف الغريبة مثل استعارته قفاز أحد موظفي تشريفات الرئاسة الجزائرية أثناء أحد المؤتمرات قبل مصافحة شخصية رفيعة.

أيا كان الأمر فإن التعامل مع ليبيا القذافي ليس بالأمر السهل، فقد عايشت شخصيا أحداثا تؤكد هذه المقولة. فعندما كنت أعمل في مجلة الدستور اللندنية عام 1979 تلقيت عرضا للمشاركة في الندوة العالمية للكتاب الأخضر التي انعقدت في بنغازي. وتضمن العرض تكليفي بمسؤولية إصدار الصحيفة أو المطبوعة المتابعة لنشاطات أيام الندوة لمدة خمسة أيام لقاء خمسة آلاف دولار هي أجري كصحافي حرفي وهو ما حدث فعلا. ولا بد من الإشارة إلى أن الندوة جمعت عشرات الشخصيات المهمة العربية والدولية، مثل محمود أمين العالم والدكتورة حمكت أبو زيد وغالي شكري والنجمة السينمائية البريطانية الكبيرة فانيسا ردغريف ورئيس تحرير صحيفة حزب العمال الثوري التروتسكي في لندن والنائب اللبناني الناصري السابق نجاح واكيم والسياسي السوري محمد الجراح ومحمد عبد الحكم دياب وبكر عويضة وغيرهم. بعض المداخلات التي قدمت في هذه الندوة كانت هامة وعميقة ومن بينها مداخلة محمود أمين العالم الذي استعرض الأصول الثلاثة للكتاب الأخضر، وهي الإسلام والماركسية ووثيقة الثورة المصرية quot;الدستورquot; عام 1962، أي المنابع الثلاثة للأحداث المصيرية التي ساهمت بشكل غير مباشر في تشكيل فكر معمر القذافي وكتابه الأخضر.

لكن للأسف الشديد، شن أنصار القذافي الليبيين حملة عنيفة ليثبتوا عدم وجود أية أصول فكرية سياسية لكتاب العقيد القذافي. وفي الحقيقة لم يأت هجوم أنصار القذافي في إطار جدل وحوار حضاري كما يجب أن يكون ولكنه جاء في إطار تهجم عنيف على مفكر كبير ومحترم في الدول العربية وخارجها، هجوم كان يمكن تبريره باندفاع وحماس شباب المثقفين الليبيين. ورغم أن العقيد القذافي أبدى إعجابه بهذه الصحيفة الإعلامية التي أشرفت أو شاركت فيها، إلا أنني لمست تغيرا في العلاقة معي جعلني أشعر وبهدوء أن استمراري في هذه المهمة بات صعبا، إذ طلب مني الذهاب إلى المطبعة حين يتوفر لدي الوقت الكافي، لذلك توقفت عن الكتابة. وربما يعود الموقف مني إلى دفاعي عن محمود أمين العالم ومضمون مداخلته، وربما أخذ الليبيون علي كتابة المنصب الحزبي تحت صور الشخصيات المشاركة في الندوة. وكانت ليبيا الكتاب الأخضر تنتقد الأحزاب على أساس أن الفكرة العالمية الثالثة، أي الكتاب الأخضر، ترفض الأحزاب السياسية وتعتبرها خرابا. ولا شيء يؤكد أن العقيد كان وراء أنصاره المثقفين المتحمسين الذين انتقدوا محمود أمين العالم. أيا كان الأمر، ظلت علاقاتي جيدة مع المسؤولين أو بعض المسؤولين الليبيين واحتفظت بعلاقة مودة مع الشيخ الراحل أحمد شحاتي رحمه الله الذي كان مسؤولا عن العلاقة بالمنظمات الاشتراكية والذي عاود الاتصال معي أثناء ندوة نظمها في أثينا ليطلب مني التدخل لدى صاحب مجلة الدستور التي انتقلت إلى لندن الزميل علي بلوط وإقناعه ببيع مجلة الدستور بإشرافي أو بمساعدتي، وكان بلوط يتفاوض لبيعها مع السياسي السوداني الشريف الهندي وبمساعدة البعث العراقي، أما أنا فكنت شابا متحمسا يصعب عليه التفكير في بيع وشراء مجلة.

وفي عام 1981 دعاني أصدقاء ليبيون إلى زيارة طرابلس بهدف مرافقة العقيد في جولة تحمله إلى دول أوروبا الشرقية، وقد دعيت إلى هذه الزيارة مع الزميل الصديق علي الشوباشي رحمه الله والذي كان يعمل في وكالة الصحافة الفرنسية. علما بأن وكالة الصحافة الفرنسية كانت ترفض قيام أحد صحافييها بزيارة بناء على دعوة حكومة دولة ما وعلى نفقتها، أما أنا فكنت في نفس الوقت مراسلا لجريدة البيان الإماراتية ولم يكن للإمارات علاقات قوية مع ليبيا، كما كنت أعمل تحت توقيع صالح السعيد في مجلة الحوادث، بعد اختطاف واغتيال صاحبها الأستاذ الكبير سليم اللوزي والذي كانت مجلته معادية أو مناقضة للثورة الليبية والعقيد القذافي. رغم هذه العوائق قررنا والزميل الشوباشي التوجه إلى ليبيا ومرافقة العقيد نظرا لأهمية هذه الجولة التي سيقوم بها، لكن حين وصولنا إلى مطار طرابلس لم نجد من يستقبلنا هناك، فذهبنا إلى مكتب الإعلام الخارجي ولم نجد أحدا فيه، وانتظرنا ساعة ونصف حتى وصل الدكتور خليفة العزابي رئيس الإعلام الخارجي وأخبرنا بأنه حضر إلى المطار لتوديع العقيد الذي قرر أن يبدأ رحلته قبل دقائق من وصول طائرتنا. قيل لنا بعد ذلك إن طائرة عسكرية سوفييتية ستعود إلى موسكو وأنه يمكن أن نسافر على متنها، ساعات سريالية عشناها منتظرين السفر بين لحظة وأخرى، إلى أن أعرب المستشار الصحافي للسفارة الليبية في لندن خليفة برازيلي عن استغرابه لوجود مثل هذه الطائرة، فطالب مسؤول الإعلام الخارجي بأن يكون صريحا معنا. هذا الأخير أقر بعدم وجود طائرة عسكرية واقترح علينا مرافقة الرحلة عبر السفر في رحلات تجارية عادية إلى مختلف محطات العقيد. شخصيا لم أنتظر تفاصيل العرض الخاص باستمرار هذه الرحلة فحملت حقيبتي وتوجهت إلى المطار مفضلا العودة إلى باريس التي بدأت أجواؤها السياسية تسخن مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية إثر انتخاب فرنسوا ميتران رئيسا للجمهورية، لكن سيارة قطعت الطريق أمام سيارة الأجرة التي كانت تقلني إلى المطار وأوقفتها وخرج منها رئيس الإعلام الخارجي الليبي الذي سألني مستنكرا: أين أنت ذاهب؟ قلت إلى المطار. قال إلى أين؟ قلت إلى باريس. قال لا توجد طائرة متجهة إلى باريس اليوم، قلت سأسافر إلى أول طائرة متجهة إلى أية عاصمة أوروبية. رغم محاولته صممت على السفر وكانت هذه آخر زياراتي إلى ليبيا.

لم أفكر بعدها في زيارة العقيد ولم أدع إليه مرة أخرى، لكنني حضرت بعض زياراته في بعض الدول مثل الجزائر وتابعت بعضها الآخر عبر التلفزيون.

باريس

أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه