تشير هذه النظرية، التي وضعها في الأصل عالم الاجتماع (ر- ك ndash; ميرتون) في عام 1949، إلي الطريقة التي يتأثر بها السلوك الاجتماعي بالتوقعات التي تكون لدي الأفراد والجماعات بعضهم ازاء بعض. ومنطلق هذه النظرية الأساسي هو ان هذه التوقعات تولد تحديا خاطئا للوضع الذي يغذي نمطا سلوكيا تغذية رجعية تظهر وكأنها تؤكد الموقف الأولي.
فعلي سبيل المثال، تري دولة (أ) ان الدولة (ب) تضمر نوايا عدوانية تجاهها، وبناء علي ذلك فإنها تحرك قواتها إلي الجبهة اظهارا لقوتها، وترد الدولة (ب) بإجراء مقابل حاسم، فتشعر الدولة (أ) بأن موقفها الأول كان مبررا، وهذا المثال المبالغ في التبسيط بشكل واضح يبين مع ذلك مبدأ النظرية.
وطبقت النبوءة المحققة لذاتها علي نطاق واسع علي قضايا مثل الطريقة التي يقوم بها المعلمون بوضع درجات طلابهم ثم يبحثون عن تأكيد لهذه الدرجات لاحقا. ويتفق علماء الاقتصاد علي أنها عامل فاعل في quot; التهافت علي الشراء quot; والأعمال المصرفية وانهيار البورصات، وكان تطبيق هذه النظرية أكثر رواجا لدي علماء النفس والاجتماع والسياسة، لكنها كانت لها شأو خاص في فلسفة التاريخ.
فقد ظهرت هذه النظرية في الفلسفة الألمانية عام 1919 بصدور كتاب أوزفالت شبنجلر quot; أفول الغرب quot;، وربما، لم يحدث من قبل علي الاطلاق أن صادف كتاب فلسفي مثل هذا النجاح المنقطع النظير، إذ ترجم إلي كل لغات العالم تقريبا، وقرأ علي كل لسان... فما السر في هذا النجاح؟ وما السحر الذي أحدثه في قرائه؟
يعزو quot; أرنست كاسيرر quot; نجاح كتاب شبنجلر إالي عنوانه، وليس إلي مضمونه. إذ كان كالشرارة الكهربائية التي ألهبت خيال القراء.
نشر الكتاب في يوليو 1918 عند نهاية الحرب العالمية الأولي، وفأدرك كثيرون في هذا العهد وجود شئ فاسد في الحضارة الغربية التي طالما حدث اسراف في الثناء عليها، وعبر كتاب شبنجلر بطريقة لاذعة نفاذة عن هذا القلق العام. فهو لم يكن كتابا علميا علي الاطلاق، لأن شبنجلر كان يحتقر كل مناهج العلم، ويتحداها علنا، وهو القائل: quot; الطبيعة تبحث علميا، أما التاريخ فينظر إليه نظره شاعرية quot;.
لقد صنع شبنجلر ndash; حسب كاسيرر - من الرؤي النبؤية فلسفة للتاريخ، ويزهو بأنه اكتشف طريقة جديدة يمكن الاعتماد عليها في التنبؤ بالأحداث التاريخية والحضارية، علي نفس النحو الذي يتبعه عالم الفلك في التنبؤ بخسوف الشمس أو القمر، مع الاعتماد علي دقة مماثلة. يقول: quot; في هذا الكتاب أول محاولة ترمي إلي تحديد الاتجاه الذي سيتجه إليه التاريخ، وتتبع المراحل التي لم يكشف عنها النقاب بعد في مصير أية حضارة، علي الأخص في الحضارة الوحيدة في عصرنا وفي كوكبنا التي بلغت بالفعل حد الكمال quot;.
وتكشف هذه الكلمات لنا مفتاح كتاب شبنجلر، وسر تأثيره العارم. وغني عن البيان ان من يتحدث علي هذا النحو لا يمكن أن يوصف بأنه عالم أو مؤرخ أو فيلسوف. لقد اعتقد شبنجلر ان نهوض الحضارة، وتدهورها وأفولها، لا يعتمد علي ما يدعي بقوانين الطبيعة، ولكنه يخضع لقوة أعظم هي قوة quot; المصير quot;. فالمصير هو الذي يسير التاريخ وليس العلية أو السببية، وهو يقابل quot; حتمية quot; الصراع بين الحضارات عند هنتنجتون اليوم.
ولعل سر ذيوع وانتشار نظرية هنتنجتون، عن quot;صدام الحضاراتquot; The clash of civilizations عام 1993، والتى نشرها أولا فى مجلة (شئون خارجية) Foreign Affairs، وطورها فى كتاب يحمل نفس الاسم فيما بعد، هو أن جميع أطراف الصدام أو الصراع كان راغباً فى تصديق هذه النبؤة التى حققت نفسها بنفسها، منذ تفكك يوغوسلافيا السابقة مرورا بالحادي عشر من سبتمبر عام 2001 وحتي تفجيرات القاعدة لأرقي أحياء الجزائر قبل أيام.
فما هو سر هذا الاجماع الذى حول هذه النظرية ndash; النبؤة إلى قناعة راسخة لدى جميع الأطراف؟
بالنسبة إلى هنتنجتون، فقد وضعت هزيمة الاتحاد السوفيتى حداً لجميع الخلافات الايديولوجية لكنها لم تنه التاريخ. فالثقافة وليست السياسة أو الاقتصاد، هى التى سوف تحكم العالم. والعالم ليس واحداً. الحضارات توحد العالم وتقسمه.. الدم والإيمان، هذا ما يؤمن به الناس ويقاتلون ويموتون من أجلهquot;.
والنزاعات بين الحضارات هى المرحلة الأخيرة من النزاعات فى العالم الحديث. ففى العالم الغربى كانت النزاعات، بعد معاهدة quot;ويست فالياquot; 1648 قائمة بين الأمراء والملوك والأباطرة. وبعد الثورة الفرنسية وقعت النزاعات بين الأمم. ونشبت فى القرن العشرين بين الايديولوجيات (الشيوعية، والاشتراكية القومية، والديموقراطيات الليبرالية). وكانت الحربان العالميتان حروباً أهلية غربية، وكذلك الحرب الباردة. وحلت اليوم المواجهات بين الحضارات. والحضارة هوية ثقافية تحددها عناصر موضوعية (اللغة والدين والتاريخ والعادات.. الخ)، وعامل ذاتى، ألا وهو الهوية التى يقررها الأفراد لأنفسهم.
ولعل أخطر ما تطرحه quot; حتمية quot; هنتنجتون ونبوءته هو: إذا كان السؤال المطروح فى النزاعات الايديولوجية: quot; مع أى جانب تقف؟quot;، ومن ثم كان بوسع الناس اختيار معسكرهم وتعديله، فإنه فى النزاعات بين الحضارات يكون السؤال quot; من أنت؟ quot;، وعندئذ لا يكون التغيير ممكناً!
أستاذ الفلسفة جامعة عين شمس
[email protected]
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية
التعليقات