في الذكرى السنوية الأولى لمقتله

في مطار فيوميشينو الواسع في روما، أتهيأ للعودة إلى أرض الوطن في آب 2006، شعور بالوحدة غريب، أبصر إشارة تدل على كنيسة صغيرة. فأدخل للصلاة قليلا، طلبا لبعض راحة وخلوة، في مطار يعج بكل أصناف البشر وقوميّاتهم. وأتجوّل بعدها في أرجاء الكنيسة الصغيرة ( الكابيلا)... تشدّني عيناي إلى سجل تواقيع الكهنة الذين يتوافدون من كل أرجاء الأرض للصلاة هنا. ثمّة ورقة منزوعة من الكتاب ومعلقة على الجدار. تفحصتها جيّدا... يا الهي ! توقيع الكاهن أندريا سانتورو، خطّه بعدما احتفل بالقدّاس في quot;كنيسة المطارquot; قبل عودته إلى مكان عمله في تركيا. والى جانب ورقة التوقيع، صلاة خاصّة خطّها أثناء حجّه إلى مدينة القدس بعنوان quot; مريم، يا سيّدة القدسquot;. لا أخفيكم أنّ دمعتي نزلت في تلك الكنيسة، على الكاهن طبعا، وعلى القدس كذلك... بكيت على كاهن كان يصلي في هذا المكان، ليترك وراءه quot; أرضه وعشيرته وبيت أبيهquot; وليعود بعد أشهر، عبر هذا المطار ذاته، ملفوفا بعلم بلاده... قتيلا. وبكيت على القدس الحاضرة في صلاته، وهي مدينة السلام الغائص في الأوجاع والقتلى يوميا.
وبين الذهاب والعودة إلى تركيا ومنها، وبالضبط في الخامس من شباط 2006، اندريا سانتورو، كاهن الرعية ذو 60 عاما، يصلي ذات صباح في الكنيسة التي قادته إليها العناية الربانية، والطاعة الكهنوتية، أي كنيسة رعية القديسة مريم في مدينة ترابزون التركية... واذا بأصوات هتافات في الخارج: فلتسقط الرسومات الدانماركية. يصلي في سرّه صلاة quot; أبانا الذي في السمواتquot; التي يختمها المسيحيون بقولهم: اللهم، لا تدخلنا في التجارب، بل نجنا من الشرير... واذا بأصوات الهتاف والاحتجاج تعلو... فلتسقط المنتوجات الدانماركية! فلتسقط الرسومات الدانماركية ! تعلو الأصوات أكثر فأكثر، ولا يعلو عليها سوى صوت رصاصتين من مسدس يحمله فتى لا يتجاوز الست عشر عاما. سيمثل بعد أيام أمام للقضاء: قل لنا: لماذا قتلت الكاهن سانتورو؟

قتل إذاً الكاهن الايطالي الجنسية، العالمي الحب، الذبيحة الحيّة، شهيد الرسومات الدانماركية. وستبكيه والدته ذات الثمانين ربيعا بعد قليل، وتستقبله في المطار الذي ودّعته فيه: قتلت يا ولدي: يا quot;أبونا quot; الكاهن، يا من كنت تقدّم الذبيحة يوميا على مذابح الله، قتلت يا ذبيحة الله. ولكنّها لا تحقد على أحد وستقول أمام القضاء: quot;إنّي أغفر لمن قتلوا ابني الوحيد والحبيبquot;. لذلك نالت هذه الوالدة التقيّة السيدة ماريا بولسيلي، في الثاني والعشرين من أيار 2006 جائزة القديسة ريتا العالمية لأنّها quot;غفرت لمن قتل ابنهاquot;. وسوف تشارك اليوم الخامس من شباط 2007 بالذكرى التكريمية الأولى لولدها القتيل، في تركيا، وتحديدا في الكنيسة التي قتل فيها.

وفي الجانب الآخر، والدة الفتى القاتل، تمثل للشهادة في المحكمة، تقف إلى جانب ابنها، وكلاهما يرفض إبداء أي نوع من الأسف أو الندامة أو تأنيب الضمير. بل قالت الوالدة: quot;ولدي قام بواجبه، وهو بطل يشبه علي آجا، الذي حاول قتل البابا يوحنا بولس الثاني في عام 1981. وهذا القتل هو هدية من ابني للشعب والأمّة التركيةquot;. يا للمفارقة العجيبة بين هاتين الوالدتين: أم تغفر لقاتل ابنها الكاهن البريء، وأخرى ترفض حتى الاعتراف بالذنب، لأنّ ابنها قام بواجبه أحسن قيام.

ويتساءل المحللون والمراقبون اليوم، بعد سنة من القتل غير المبرّر: كيف تسير الأمور اليوم في تركيا؟ وما مدى تأثير هذا القتل في التقريب بين الناس، لا تفريقهم، وفي تعزيز الهوية المسيحية المغيّبة في تركيا؟ وفوق ذلك ما مدى إسهام تلك الجريمة بتحريك الأمر لصالح الحريّة الدينية التي ما زالت تعاني من قيود عديدة؟ بلا شك، لقد حدثت متغيّرات كثيرة على الساحة التركية في العام المنقضي: فكانت محاضرة البابا بندكتس ال 16 في ألمانيا في سبتمبر مناسبة لتأجيج مشاعر التطرّف والخوف على الأقليات المسيحية في هذا البلد العلماني في دستوره والمسلم في واقعه. لكنّ زيارة البابا نفسه إلى تركيا في نوفمبر الماضي، قد أسهمت، عكس ما كانت عليه المخاوف والتدابير الأمنية التي لم يسبق لها مثيل، في تقريب أبناء الديانتين المسيحية والإسلامية، وبخاصّة في اللقاءات التي عقدها قداسته مع القيادات السياسية والدينية المسلمة. ولم يتوان عن الوقوف في الجامع الأزرق حافي القدمين، مؤكدا على احترامه للدين الإسلامي وللمسلمين في العالم. وغير بعيد عن الكنيسة، مسرح الجريمة، أشاد البابا بالكاهن القتيل: quot;لنردّد إيماننا ونشيدنا بفرح حتى عندما تحيط بنا المصاعب والأخطار، كما تعلمنا من شهادة الأب أندريا سانتورو ابن روما الذي يسعدني أن أذكره في هذه الذبيحةquot;. (29\11\2006).

كانت الأمور تأخذ منحى ايجابيا نحو تعميق العلاقات الطيّبة، لكنّ مقتل الصحفي الأرمني هرانت دينك في كانون الثاني 2007، قد أعاد المخاوف الى النفوس، لأنّ الصحفي المغدور كان يكتب دائما من أجل المصالحة بين الأتراك والأرمن الذين بينهم عداوة شديدة، بسبب المجازر التي أرتكبت بحق الأرمن. ومن المؤسف بث شريط فيديو أظهر عناصر من الشرطة التركية يتصوّرون مع قاتل دينك ويدعى اوغون ساماست وهو يحمل راية لتركيا.
ونتساءل هنا: أهي الصدفة أم ماذا التي جعلت تقاربا بين القاتلين من جهة وبين الضحيّتين من جهة أخرى: بين القاتلين عمريا ومعنويا، فكلاهما لا يتجاوز الثمانية عشر عاما. ورئيس الحكومة أردوغان لم يستبعد وجود علاقة بين الجريمتين المتباعدتين بعام واحد فقط، وهذا ما تحاول السلطات الأمنية أن تجد خيوطه. وهنالك أيضا تشابه بين القتيلين: فالكاهن (60 عاما) والصحفي ( 53 عاما) القتيلان لم يتعبا، ولم يتوقفا، حتى لحظة مقتلهما بالرصاص التركي، من الدعوة إلى المصالحة والوئام. وكلاهما ذهب شهيدا للصحافة: الكاهن قتل بريئا على خلفية رسومات غير بريئة في صحف الدانمارك، والصحفي قتل على خلفية مقالاته الداعية للمصالحة في صحف تركية.

في الذكرى الأولى للكاهن المغدور: نجد الجهود المبذولة وغير اليائسة لكي لا يضيع الدم هدرا، وينتظر في شهر أيار 2007 افتتاح مركز ثقافي ضخم في تركيا للحوار بين الثقافات والأديان، وسيحمل اسم quot;مركز الأب أندريا سانتوروquot;، فهو الذي كان داعيا دؤوبا إلى تقارب الديانات التوحيدية الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام. وهو ذاته الذي أنشأ مجلة quot; نافذة على الشرق الأوسطquot; لحث الكنائس quot; الغنيّةquot; في الغرب لمساندة الكنائس الوطنيّة quot; الفقيرة quot; في الشرق. بالإضافة إلى إعداد تقويم سنوي يحمل الأعياد اليهودية والمسيحية والإسلامية، بهدف تعزيز التقارب بين المؤمنين. وزار القدس عام 1981 وكان يشجع الحج إليها، للاستقاء من نبعها الروحي الصافي رغم ما يعكر صفوه ونقاءه من آلام سياسية. وفي 31 من كانون الثاني المنقضي، كان حفل التوقيع في أبرشية روما وبحضور والدة الشهيد وأخواته وبرعاية الكاردينال رويني كاردينال مدينة روما، على كتاب جديد يحمل عنوان: quot;الأب أندريا سانتورو، كاهن بين روما والشرقquot;. فيما أطلق محبّوه وزملاؤه موقعه على الانترنت الذي حمل عنوان www.andreasantoro.org ويتضمّن رسائله وأقواله بل ورسالته التصالحيّة واللاعنفيّة التي مات شهيدا على مذبحها. ومن الطبيعي أن نجد كلاما عن الصحفي الأرمني في الموقع الالكتروني للكاهن الايطالي.

والكاردينال رويني هو الذي أبّن الكاهن في الاحتفال بتوديعه الأخير بعد عودته راقدا من تركيا، وقال فيه: quot;لقد كان رجلاً في غاية الذكاء ويؤمن بعمق بكلمات الانجيل: quot;إنَّ حبَّة الحنطة التي تقعُ في الأرض، إنْ لم تمُتْ فإنَّها تبقى وحدَها وإنْ ماتت أتتْ بثمَرٍ كثيرquot;. تحلَّى بالشجاعة الإيمانية، هذه الشجاعة التي قدَّمها الشهداء على مرِّ العصورquot;. واختتم رويني عظته يومها بقوله: quot;أودّ التعبير عن اقتناعي الخاص بأنَّ في تضحية الأب أندريا توجد جميع عناصر الاستشهاد المسيحيquot;. وبالفعل عاد بعد أيام وأعلن للعالم: انّ دعوى تطويب ( واعلان قداسة ) الكاهن القتيل سوف تبدأ في روما في 5 شباط من عام 2011 أي بعد مرور 5 سنوات على قتله.

وبعد، غابت الضجة في العالم على رسومات الدانمارك. وحكمت السلطات على القاتل غير التائب ذي ال 17 عاما اليوم بالسجن لمدّة 18 عاما. ولعلّه ذات السجن الذي ما زال فيه quot;زميله في الرماية quot; علي آجا، وكذلك قاتل الصحفي التركي ذو ال 18 ربيعا. وغير بعيد كثيرا عن سجن قاتل الراهبة الايطالية ليونيلا في الصومال في سبتمبر الماضي، بعد أيام على محاضرة علمية للبابا في جامعة ألمانية... وقد قضت مضرّجة أيضا بدمائها البريئة وهي تصيح: quot;اني أسامح، اني أسامحquot;.

تنام الضحايا في سعادتها الخالدة وينام الجناة في سجونهم المظلمة. وتبقى الذكرى العطرة للمخلصين الذي ضحوا بحياتهم في سبيل إنسانية نظيفة وخالية من الاحتقان بين أبناء الديانات. وتبقى صارخة آخر كلمات خطّها الكاهن سانتورو في رسالة إلى أحد الكهنة في 22\1\2006 أي قبل أسبوعين من استشهاده: quot; أشكر الرب على كل القلوب المنفتحة والتي ما زالت تزداد شجاعة، رغم الصعاب والتحديّات، وأشكره على العقول المنفتحة لتفهم، وعلى النفوس المنفتحة لتحب، وعلى كل إرادة صالحة منفتحة لتقول: نعم، ملبية نداء الخالق. انّنا معا، نخدم الرب أفضلquot;.
غادرت المطار في آب 2006، وصورة سانتورو عالقة في مخيّلتي، بحثت بعد عودتي في الانترنت، فوجدت صلاته: إلى مريم، سيّدة المدينة المقدّسة، القدس، عاصمة التلاقي والألفة بين أبناء إبراهيم، نقلت الصلاة إلى العربية، وتلوتها مع رعيّتي في جنوب الأردن، وفيها يقول مؤلفها الراحل:
quot;يا مريم سيّدة القدس، صلي لأجلنا،

ويا مريم أمّ الذين لا يعلمون ماذا يفعلون، صلي لأجلنا quot;.


[email protected]
www.abouna.org