ليس التشرذم والفرقة وحدهما نتاج الوضع العراقي في زمن الحصار والعولمة وما بعد الدكتاتورية، وانما افرزت المدة الزمنية الطويلة التي أستطاع بها صدام إن يحكم العراق بالحديد والنار، الى أنتاج حالات هجينة سمها ما شئت، ومن بين تلك الحالات العديدة حالة يمكن ان نطلق عليها تسمية البطاقة الوطنية، وهي لا تتعلق بهوية الاحوال المدنية طبعا.
ونقصد بالبطاقة الوطنية، الشهادة التي يمنحها ( بعض) للشعراء والكتاب والمثقفين الذين خرجوا من العراق كل يحمل بين طيات روحه اسباب خروجه المختلفة، فيتم توزيع البطاقات الوطنية بدلا من البطاقات التموينية عليهم، ومع ان البطاقة التموينية نتاج عملية النفط مقابل الغذاء والدواء، والوسيلة التي ابتز بها صدام اهل العراق، وخصوصا الفقراء واصحاب الدخول المحدودة وهم اكثر اهل العراق، وصار وقتها الوطني من لايتعارض مع سلطة الدكتاتور، وصار ايضا الوطني الصامت والساكت والمنزوي ولو بقي في زوايا بيته، وبين العراقيين خارج الوطن فان الشهادة الوطنية باتت لاتعتمد على العطاء والموقف بقدر ما تعتمد علي الاهواء والمزاج، فثمة من يجلس علي قارعة الطرق يوزع بيانات الاتهام واخر يجلس في زاوية المقهي يطلق الاحكام والتهم، وآخر لايستسيغ أسم أو وجه أحدهم فيسحب منه الصفة، وغيره يشغل نفسه في البحث عن قضايا شخصية ليشهر بها غيره من له حالة من عدم الأنسجام أو عدم التوافق في الرأي أو في المزاج، ومع انتشار اهل العراق في المدن العربية والمنافي الغربية تجد الكثير ممن تفرغ لمثل هذه الاعمال، والغريب ان هؤلاء الحكام ومطلقي الاحكام لا يتمتعون بجزء يسير مما يتمتع به المحكوم ثقافيا وابداعيا' اوأن جلهم ممن كانوا من غير المؤثرين والفاعلين في الساحة الثقافية العراقية، ولايمكن للمبدع والمثقف إن يطلق الأحكام والأتهامات دون اسانيد وأسباب، فالمبدع لاتشغله الأتهامات ولاتعنيه الأشاعات.
المحزن حينما تتحدث عن اسم من اسماء المثقفين في مجلس او ندوة حتي تجد من يتصدي لهذه الاسماء ويلصقها بتهمة العمالة والتعاون مع السلطة الصدامية وخدمة الحكومة!! وحينما تريد ان تتلمس شيء من هذا المتحدث لا تجد من مؤهلاته سوي الثرثرة الفارغة واطلاق سيول الاتهامات، فمن يصدق ان قاصا يتم الشطب عليه لانه كتب في احد قصصه كلمة الرفاق مجرد هذه الكلمة تلغي ابداعه، وان قاصا أخر عميلا للحكومة لانه كان موظفاً في وزارة الاعلام وكان يفترض به النضال في الداخل حتي الموت بدلا من اللجوء والهروب بجلده أو مع عياله لأنقاذهم من ساطور الدكتاتور، وان شاعرا يتهم بأنه كان يحمل رتبة كبيرة حينما كان يعمل في جريدة القادسية، وكان يفترض عليه ان يلقي قصيدة ضد السلطة ويشتم السلطان وسط ساحة التحرير تحت نصب الحرية، والحقيقة انه كان جنديا يتعايش مع البغال وصناديق العتاد الفارغة، وأن مطربا غنى للعراق والجيش الذي يقاتل خان العراق، وان ملحنا اعطى من الحانه لأغاني تمجد بالسلطان دليل على خيانته العراق، وتستمر قائمة الاتهام لا تستثني الا القليل القليل، فيتم الغاء كل نتاجاتهم في تلك الجلسات وتروي القصص التي تصل لمصاف قصص الف ليلة وليلة ويقترن كل ذلك بقسم غليظ يؤكد صحة الروايات المنقولة.
كل من كان في خدمة الحكومة هو عميل للسلطة البائدة !! وكل من عمل مع اجهزة الدولة في الزمن الصدامي الطويل جزء من منظومة الخراب التي يستوجب محاربتها وتهميشها، وكل من انتمى الى حزب السلطة غصبا أو قهرا أو بأيةو وسيلة أخرى ينبغي اجتثاثه ومحاربته حتى ولو بلقمة عيش اطفاله وحياته، أتهامات عديدة تبدأ من وكالة المخابرات مرورا بعناصر الأمن ووكلاء القسم الخارجي، وحتى مرورا بعملاء السفارات الصدامية ومجاميع المغتربين.
هذا الموقف النشاز والغريب، وهذا النهش والتجريح الذي لا يخدم الثقافة ولا الوطنية بشيء ويجافي المنطق الاخلاقي ومقاييس المواطنة والحقوق الأساسية التي نص عليها الدستور، هذا النهش يجد له مجالاً للاستماع والأصغاء وشيء من الاحترام مع الاسف، وحتي بات الأمر إن لا يلقي من يروج لمثل هذه القيم والمقاييس المتناقضة مع السعي لترميم خراب العراق أو لبناء دولة القانون والحقوق الحد الادني من المواجهة والردع من قبل المستمعين على الأقل، وعلي عكس المنطق يصبح الحديث عن هذه الاحكام شيقا ويتم تعميم هذه الاحكام دون الالتفات الي مصداقية مروجيها وعدالة الراوي فيصبح الحكم الباطل عادلاً والزيف في الشهادة اثباتاً.
هذه الحالة هي جزء من حالة التردي الاخلاقي التي اصابت المجتمع العراقي وانسحبت ايضا علي اخلاقيات الثقافة العراقية ولطخت جوانبها بفعل الظروف التي مر بها العراق سابقا، أو التي تمر به اليوم، وهي بالتأكيد حالة مرضية غير صحية لا ينبغي السكوت عنها وغض النظر عن التصدي لها، والمتتبع لمروجي مثل هذه الاحكام لا يجد سوي بعض الاسماء المتطفلة علي الثقافة والادب والتي تدعي معرفتها بجانب من جوانب المعرفة الثقافية ظلما لانك لو تلمست اي نتاج لهم لما وجدت فيه غير ارهاصات المبتدئين ممن يقفون علي مفارق طرق المشتغلين بالادب والثقافة ينطبق عليهم قول الشاعر دعبل الخزاعي:
اني لأفتح عيني حين افتحها
علي كثير ولكن لا أري احداً
ان مصادرة المثقف والمبدع والاديب من قبل اشخاص لا يمتلكون ادني حقوق محاسبة الاخرين يشكل محنة اخري تضاف الي المحنة الكبيرة التي يعيشها المثقف داخل الوطن في ظل ظروف الأحتلال والأرهاب ن أو خارج الوطن في ظل الأغتراب والمعاناة. فانت تشعر ان ثمة سلطة تحاسب في الداخل وتستخدم اساليب ووسائل لم نألفها، كذلك تشعر ان ثمة سلطة كارتونية سلاحها النهش والثلب واساءة السمعة تمثلها سلطة بعض ممن اصيبوا بامراض المنافي ووصلت الاوبئة الى عقولهم وضمائرهم، ولما لم يصلوا الي مستوي القبول حركوا ابدانهم لعلهم يتطاولون علي القامات الواقفة او لعلهم يلفتوا النظر علي الأقل في زمن ضاعت فيه المقاييس مؤقتا.
ويتأثر المثقف العراقي بالتشرذم الحاصل بين المجتمع العراقي، ويتأثر ايضا بحالة الأحباط والمعاناة التي يعيشها الإنسان في العراق وسط حالة هجينة لم يألفها ولاكان يتوقعها أو يحلم بها، وينسحب كل هذا على فرقة المثقفين خارج العراق.
كانت الاحزاب العراقية علي قلتها هي التي تحدد الموقف من الاديب والمثقف، وكان هذا التقييم لا يخرج عن الموضوعية والعقلانية، والان علي كثرة الجهات السياسية التي عافت هذا التحديد بعد ان استلمه اناس يمسكون بالنصول الحادة أكثر من مسك الغربال والقلم، وبات الطعن الحاد اكثر من النقد الموضوعي والتقويم الهادف.
واليوم بعد إن ازيح كاهل الدكتاتورية والطغيان عن رقاب شعبنا، واليوم بعد إن صرنا لانخاف على عيالنا ورقابنا حين ننتقد السلطة، أما آن لنا إن ندرك حجم الخراب وحاجتنا لترميم النفوس ؟ أما آن لنا إن ننشر المحبة والتسامح بين الطبقة الواعية والمثقفة والتي لها الدور الأراس في بناء مجتمع الديمقراطية ؟ وكيف لنا إن نبد التأسيس ولم نزل نمسك احجارنا نرمي بعضنا بعض ؟ وكيف لنا إن نبدء البناء ولم نزل ننهش بأجساد بعض ونخاف بعض ولاندرك إن الزمن يركض ونحن لم نزل وقوفا كالأحجار.
لعله عارض مؤقت يطهرنا منه الزمن، لعلها أمراض المنافي التي نشكوها لأنفسنا وما كنا نعرفها.. دعوا المبدعين يسكبون الامهم في هذا الزمن المر.. دعوا المثقف العراقي يبدع دون ان يتحمل جراح اضافية فما اصابه من جراح الزمن يكفيه وليس اكثر تأكيداً علي هذا أكثر من أن مبدعينا مستمرين بالنتاج غير عابئين بالرذاذ الذي سيعود حتماً لاصحابه ومن ثم سيتوقف لعدم قدرته على المطاولة.
اليوم نحن بحاجة لوقفة وجدانية نراجع بها انفسنا، واليوم نحن بأمس الحاجة لمحاسبة ضمائرنا، فالعراق يعني الشعب الذي يتضور ظلما وجوعا وخوفا، والعراق من تنهش مجاميع الإرهاب بجسدة المليء بجراح الدكتاتور وخراب الطغيان، واليوم نحن بأمس الحاجة للتسامح وان نتمسك بلغة تليق بأسم العراق، وان نستنكر اللغة الهجينة و( مفردات العهر والهجاء والشتيمة )، وأن نعيد لغتنا العراقية المتألقة والتي نتباهى بها، لنعيد الأعتبار على الأقل للمبدعين والمثقفين الذين يعطون للعراق وطن الجميع.
اليوم علينا إن ندرك إن تلك النزعات التي غرسها الطاغية في عقولنا لاتليق بأيامنا القادمة ولاتنسجم مع تطلعاتنا لمستقبل شعب العراق.
شعبنا وليس نحن من يستطيع إن يحاسب المثقف على موقفه، وشعبنا وحده من له الحق في إن يحضن اولاده ويحيط يديه حول خاصرتهم يحميهم من غربة تقشعر لها الأبدان وليل طويل ونهارات مليئة بالظلمة والكآبة والحزن والموت البطيء، هو الذي يصفح ويتسامح ويعيد كل من لديه الأستعداد إن يعود لحضن العراق، شعبنا وحدة له الحق في تقدير إن تعود العائلة العراقية بكل كرامتها، وهو الذي يحمي العراقي من غائل العوز والحاجة وهدر الكرامة والوقوف على ابواب السفارات والخوف من الدرك العربي ونقاط الحدود والتفتيش، وشعبنا وحده من له الحق في إن يعيد الجميع لضحكاتهم ولياليهم وتجمعاتهم واهلهم ومدنهم مجللين بالآمن والسعادة والعطاء، اذا ما استعاد تلك الوحدة والتلاحم الأنساني الذي افقدنا اياه صدام، اذا ما أستعاد تلك المروءة والنخوة والشهامة والمحبة التي كانت تكلل ايام العراقيين، اذا ما استطعنا إن نحكم بضمائرنا ونمسح من أيامنا القادمة الغصات التي ولدها الطاغية الذي رحل عنا بلا رجعة، وإذا استطعنا إن نجعل اولادنا تمسح الخوف من عيونهم ونفوسهم، وحده شعبنا من يستطيع إن يبني الخراب بالمحبة، وان يرمم النفوس المتحطمة بالتآخي، فلم تزل العيون تتطلع للعراق الذي لاينحني فثمة ظواهر عديدة تدل على بقاء النبل ومعالم الخير موجودة في نفوس العراقيين لم يستطع الإرهاب ولا القتلة إن يمسحوها من وجودنا، وحده شعبنا من يقدر على استعادنا رموزه وأولاده وعلماءه ومبدعيه، ونحن بأمس الحاجة اليهم، ووحده شعبنا يلتفت لكل المظلومين والمغيبين والمهمشين، ووحده سيتابع المثقفين خارج الوطن مما ارغمتهم ظروف الهجرة السياسية والأنسانية لينتشروا في كل اصقاع الأرض، يشدهم رابط روحي لاينفصم مع العراق.
- آخر تحديث :
التعليقات