المصحف... اللغز


تورد المصادر ( الجعفرية ) ـــ وأقول الجعفرية وليس ( الشيعية ) ــ روايات عديدة عن ( مصحف فاطمة ) هناك روايات في كتاب ( الكافي ) للشيخ الكليني، وهناك روايات في كتاب ( بصائر الدرجات ) للراوية المكثر( الصفَّار ) الذي أعده من أخطر الكتب على الفكر الجعفري الشفاف النزيه، وقد قدمت دراسة مستفيضة عن عدم أهلية هذا الكتاب ليكون مصدرا عقديا للمذهب الجعفري، أقلها إنه وصل إلينا وجادة وليس رواية، وفي أثناء بحثي عثرت على دليل جديد يجعلنا نشكك أكثر بأهلية هذا لكتاب كمصدر عقدي للمذهب الجعفري الروحي الذي تغلب عليه السمة الروحية الإنسانية كما سأبين في لقاءات مقبلة بإذن الله، وتوجد روايات في كتاب ( أمالي إبن الشيخ الطوسي )، وهو كتاب آخر مشكوك الوصول بطريق معتبر إلينا، وتوجد روايات في كتاب ( دلائل النبوة ) لمحمد بن جرير بن رستم الطبري، وكثير من الجعفريو وغيرهم يتوهم انه الطبري المؤرخ الشهير، وليس هو بذاك.
هذه الروايات خليط فوضوي عجيب، تعرض لنا هوية ( مصحف فاطمة ) بصورغاية البساطة والسلاسة تارة، وفي صور غاية التعقيد والغموض تارة أخرى. صور مريحة ــ وهذا لا يعني بالضرورة أنها حقيقة ـ وصور مزعجة، ومن الغريب أن نرى أمثال هذه الصور المختلفة الهوية، المضطربة الصورة في التراث السني أيضا، حول صحف وكتب لصحابة، سوف أمر عليها أثناء البحث إن شاء الله، فليس ( الجعفرية ) وحدهم قد أبتلوا بهذه الآفة المخيفة، بل في التراث السني ما هو أفظع في كثير من الأحيان، ولكن تكاثرت الهجومات الشرسة على ( الجعفرية ) بسبب هذه المصحف وغيره لأسباب سياسية، لا أ قول ذلك على نحو الإطلاق، ولكن على نحو بارز ملحوظ، وهناك من البشر من لا يخاف الله تعالى، فيستغل هذه المفارقة لمآرب سياسية قذرة، خاصة في هذه الأيام حيث حل الصراع الطائفي للاسف الشديد بديلا عن الصراع الفكري والفلسفي والسياسي، علما أن كاتب هذه السطور ليس من مشروع الدولة الدينية بل ضدها.

هذه الهويات المتعددة لـ (مصحف فاطمة ) في التراث الجعفري ألا تحرك الضمير السني اليقظ بهدف علاجها ا بروح علمية مسبقة بحسن نية وإيمان بوحدة المسلمين ؟ علاج يركز على الهوية البسيطة المعقولة التي لها نظائر كثيرة في التر اث السني ذاته ؟ هل ننسى أن لأبي هريرة ( صحيفة إعجازية ) رُزقها على شكل طاقة مذهلة على الحفظ فيما كان عاجزا عن حفظ كلمات معدودة عن ظهر غيب ؟ وكان ذلك بفضل دعاء رسول الله ؟ وأعد قراء ( إيلاف ) بأني سألتقي بهم إن شاء الله بدراسة مطولة عن الصحابي إبي هريرة أتعرض بها إلى ملا بسات جديدة في حياة هذا الرجل، قراءة علمانية لا علاقة لها بمذهب ولا دين، فكاتب هذه السطور بكل صراحة علماني وليس له علاقة بالإسلام السياسي.
في هذه الحلقة أريد أن استعرض جميع ما وقعت عليه يدي من روايات تخص هوية هذا المصحف بلغة نقدية، ليس من خلال السند والمتن وحسب، بل من خلال مقتربات وآليات تتعين في حينها، لنتخذ موقفا معقولا من كل ذلك بإذن الله.
ضد المسلَّمة الأولى
في أحد الكتب نصادف كلاما لأحدهم أن الجعفرية يقولون بأن القرآن كامل، لا نقص به، وهو الموجود بين الدفتين لا غير، ودليله أن الكتاب الكريم عُرِضَ على ( مصحف فاطمة ) فكان طبق ما هو موجود بين الدفتين !!
هذا الكلام ظاهره الرحمة وباطنه العذاب، فقد نسي هذا الراوي أو هذا المستنبط الساذج أن القرآن هو كتاب ( ما قبل ) أي إليه ترجع الإحالة وليس العكس، وهنا ينبري شيعي مسلم ومعه سني مسلم ليستشهدا بقول الصادق عليه السلام وفي كتاب (الكافي ) والذي جاء فيه وهو يضع ميزان التمييز فيما أختلف فيه من الروايات عن اهل البيت ( إن على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نورا، فما وافق كتاب الله فخذوه، وماخالف كتاب الله فدعوه ) / الكافي 1/ ص 123 ح 1 طبع دار التعارف / وقوله ( كل شي مردود إلى الكتاب والسنة، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف ) / المصدح 2 / وفي رواية عن النبي ( أيها الناس : ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فانا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله ) / المصدر ح 5 /.
هذه الروايات كافية بالرد على هذه الاسطورة الغبية، فحتى لو كان ( مصحف فاطمة ) موجودا يجب أن نرجع به إلى الكتاب الكريم وليس العكس !
على أن هذه الرأي البارد مردود من جوهره على القول بوجود مصحف فاطمة، فإن هذا المصحف كما تشير الروايات ليس فيه من القرآن حرف، فكيف يكون مرجعا تقويميا للكتاب الكريم ؟

خرافات وأساطير سطرتها أما ايدي جاهلة أو أيدي مغرضة، أو أيدي متعصبة، أو هي نتاج زمان قاسي، وسوف أقوم بعملية غربلة لبعض الأقوال التي قا لت بنقص القرآن من شيعية وسنية في ضوء ظروف صراع سياسي لا علاقة له بالدين ولا بالإسلام في قراءات مقبلة إن شاء الله.
هذه الر اوية أو هذا الرأي منقوض جعفريا، من داخل التراث الجعفري، فهل إنتبه الآخرون إلى ذلك ؟ وهل وضعوه في نظر الإعتبار ؟ كي يكون تعاملنا مع الآخرين بتجرد ومعقولية ؟

والتسلية بما لا يُسلِّي
تقول الرواية عن الكافي (... إن فا طمة مكثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة وسبيعن يوما وكان دخلها حزن شديد على أ بيها، وكان جبرائيل عليه السلام يأتيها فيحسن عزاءها على أبيها، ويطيب نفسها، ويخبرها عن أبيها ومكانه، وما يكون بعدها في ذريته، وكان علي عليه السلام يكتب ذلك، فهذا مصحف فاطمة ) / الكافي 1 ص 297 /
سبق وأن تحدثت عن سند هذه الرواية فلا أعيد، ولكن ألم يكن بمقدور فاطمة وهي بنت الرسول الكريم أن تتسلى بالصلاة والقرآن الكريم ؟ ( واستعينوا بالصبر والصلاة )، تلك هي هوية المؤمن الصادق، وأعتقد جازما، بل أقسم على ذلك أ نها سلام الله عليها كانت تتسلى وتستعين بالصبر والصلاة وقراءة القرأن وليس بها حاجة لجبرائيل كي يقص عليها.
أي تسلية هذه وهو يعرض عليها شلالات دم بنيها على مر التاريخ وهي تسيل في أزقة الكوفة وبغداد والري واصفهان وغيرها من عوالم العالم الإسلامي ومن دون توقف ؟

لقد كان علي مشغولا خلال هذه المدة بجمع الكتاب الكريم كما هو ثابت في الصحيح الجعفري، وكان في حراك سياسي فكري في قضية الخلافة، وكانت هي معه تشد أزره، وتعينه، وتنا فح عن حقوقها وحقوق زوجها السياسية، وكانت مشغولة في خضم تربية أولادها على مبادئ دين ابيها، وليس في حاجة إلى جبرائيل كي يتنزل من علياء السماء السابعة ويجلس بين يديها، أو يمشي رواحا وإيابا كما تتصور بعض العقول ليقص عليها قصة جسد الحسين تمزقه الرماح والسيوف، وقصة جثة زيد بن علي معلقة على الشجرة لسنين طوال، وقصة حسين فخ يجوب الصحاري والققار هاربا ليس له من يأويه، وقصة موسى بن جعفر في أعماق السجون مكبل اليدين والرجلين.
أي عزاء هذا ؟
أي خبر جميل يحمل جبرائيل لفاطمة ؟
أي تطيب لخاطر مكسور هذا ؟
أي تطيب للنفس بشلالات من الدم المسفوح وتلال من الرؤوس المقطعة والايدي المجذوذة ؟
ومن الواضح ( التقنية ) المدروسة في صناعة الحديث المخدوم، فقد تم إطلاق ( المكبوت) بعد التمهيد له بمقدمات فنية رائعة، هناك هدف بعيد ( ويخبرها عمّا يكون بعدها في ذرّيتها ) !
وهنا يمكننا أن نستمع إلى حفيدها الامام السجاد وهو الذي شهد مجزرة قتل أهله ظلما وعدوانا، حيث لم نقرا أنه كان يتسلى بمصحف فاطمة ليعزي نفسه بما وقع له عيانا، وما هول ما وقع، حيث المصحف كان امانة عنده ! لقد أمضى تسليته أو عزاءه بذلك الدعاء الجعفري العظيم، وقراءة القرآن، وتوزيع الخبز ليلا على فقراء المسملين سرا، ونشر حديث رسول الله ما استطاع، وإغاثة الملهوف، ولم نقرأ عنه أنه تسلى بمصحف إسمه ( مصحف فا طمة، أم إنه كان يتسلى سرا ؟

جاء في كتاب الكافي (... علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن محمّد القاساني، جميعا... عن الزهري : قال : قال علي بن الحسين لو مات ما بين المشرق والمغرب لما ا ستوحشت بعد أن يكون القرآن معي... )/ الكافي 2 ص 567 /.
إذن لم يكن السجاد بحاجة إلى هذه المصحف المزعوم، اقصد مصحف فاطمة، وهل فاطمة غير أنها أم السجاد ؟ وهل تحتاج فاطمة غير كتاب الله عز وجل تستعين به على مصابها العظيم بوفاة النبي الكريم ؟
ترى أي سر وراء هذا المصحف، وأي سر وراء صحيقة عبد الله بن عمرو بن العاص، وأي سر وراء معجزة أبي هريرة الحفظية المهولة، وأي سر وراء الصحيفة الجامعة ؟ وأي سر وراء مصحف عائشة رضي الله عنها ؟
هناك أسرار وأسرار، في الحلقات المقبلة سوف نميط اللثام عنها، هناك معارك ( مصحفية ) وهمية، سنية وشيعية، خلقتها السياسة والإختراق.
وعلم المستقبل ( أهم ) من علم الماضي
تماما كما هي ( الصحيفة الصادقة ) المزعومة، التي أملاها رسول الله على عبد الله بن عمرو بن العاص، فإن ( مصحف فاطمة ) يحتوي على علم ( ما يكون ) فضلا عمّأ هو كائن (لقد كنت أنظر في كتاب فاطمة عليها السلام، ليس من ملك يملك الأرض إلا وهو مكتوب فيه ب اسمه واسم أبيه، وما وجدت لولد الحسن فيه شيئا ) / الكافي ص 298 / وفي رواية ( إنه ليس في من الحلال والحرام ولكن فيه علم ما يكون )، وفي رواية ( علم ما كان وما يكون )، وفي رواية ( فيه خبر ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وفيه خبر سماء سماء، وعدد ما في السموات من الملائكة وغير ذلك، وعدد كل ما خلق الله مرسلا وغير مرسل... ) / دلائل النبوة ص 27 / وسوف أتناول هذه الروايات سنديا في حلقة مقبلة، فهي أكثرها من كتاب ( بصائر الدرجات ) و( أمالي بن الشيخ الطوسي ) و كتاب ( دلائل النبوة ) للطبري وهي روايات ضعيفة السند، مخدوشة المتن.

نقرأ في الكافي ( علي، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن سماعة بن مهران، قال : قال أبو عبد الله عليه السلام :إن العزيز الجبِّار أنزل عليكم كتابه وهو الصادق البّار، فيه خبركم، وخبر من قبلكم، وخبر من بعدكم، وخبر السماء والارض، ولو أتاكم من يخبركم عن ذلك لتعجبتم )/ الكافي 2 ص 564 ح 3 /
والراوية صحيحة حسب معطيات علم الرجال الجعفري.
نقرا في الكافي أيضا ( عدة من أصحابنا، عن احمد بن محمد... إن القرآن نزل على أربعة أرباع، ربع حلال، وربع حرام، وربع سنن وأحكام، وربع خبر ما كان قبلكم ونبأ ما يكون بعدكم وفصْل بينكم ) / 2 ص 591 ح 3 /.
وهذه الرواية وإن لم تكن صحيحة حسب معطيات علم الرجال الجعفري، ولكنها تقع في مقابل تلك الروايات التي تتحدث عن مصحف فاطمة.
ونلتقي برواية أخرى عن الإمام الصادق عليه السلام [ إن العلم كله إنما يؤخذ من كتاب الله، وأعلم ما في الجنة، وأعلم ما في النار، وأعلم ما كان وما يكون ( قال الراوي ) : ثم مكث هنيهة فرأن أن ذلك كبر على من سمعه منه فقال ( علمت ذلك من كتاب الله عزّ وجل، إن الله عز وجل يقول فيه تبيان كل شي ]/ الكافي /
ولست أؤمن بسند الرواية ولا بمضمونها، ولكن هي تؤكد لنا إن الأمام لا يحتاج إلى مصحف كمصحف فاطمة، مسجل فيه علم ما كان وما يكون، ما دام الإمام يستيطع أن يستنتج ويعرف ويحيط بذلك من كتاب الله سبحانه وتعالى.
في الحقيقة أن ( مصحف فاطمة ) بهذه الهوية المزعومة يفوق الكتاب الكريم كرامة وقوة ونورا وعلما، فما دام فيه عدد النجوم والدول والبشر والحجر والحصى وأسماء الملوك والعلماء والشهداء، ومن سيدخل الجنة ويدخل النار، وفيه أسرار التوراة والأنجيل والزبور، وفيه اعمار الناس وممتلكاتهم ومآلهم ومستقبلهم، وما يجري في هذا الكون الرحيب، وفيه قوانين الوجود الظاهر والباطن على نحو الدقة الكاملة و الشمولية الصا دقة، وفي رواية إن هذا المصحف المزعوم يحتوي حتى كتاب الله، فهو المصحف الذي لا يغادر كبيرة ولا صغيرة، فعليه يفوق شرفا وكرا مة وقوة ونورا وسطوعا وعلما وتجربة وفكرا كتاب الله جل وعلا، وهو الكتاب الذي تصفه روا يات الإئمة عليهم السلام بأنه خاتمة الكتب، ومعجزة المعجزات، ونور الله في السماء والارض، وأ نه يتجدد في معانيه كما يتجدد الليل والنهار، وأن فيه نبا من قبلنا ونبا من بعدنا، وهو بنص القرأن نفسه فيه تبيان لكل شي.

أن مصحف فاطمة بهذه الهوية منقوض بالروايات الصحيحة الواردة عن أهل البيت، ولذا لا مهرب من القول أن خبر هذا المصحف بهذه الهوية مكذوب على هؤلاء الا طهار، وأن المذهب الجعفري بري من هذه الفرية.
لست أعير أهمية لمحاولات تسمى محاولات جمع بين الأخبار، فإنها جهد العاجز، ولا أعتقد أ ن ا لإئمة الأطهار يتركون شيعتهم ومحبيهم يذيعون عليهم مثل هذا الكلام المبهم، الذي يؤدي إلى لبس فهم في أهمية وعظمة وشمولية وحجية القرآن الكريم.
بل هذا المصحف المزعوم ( أشرف ) من كتاب الله، ففيه علوم المستقبل، وفي هذا السياق نقرا رواية تقول (... ومصحف فاطمة ما أزعم فيه قرآنا، وفيه ما يحتاج الناس إلينا، ولا نحتاج إلى أحد حتى أن فيه الجلدة ونصف الجلدة... )، والرواية تدعي أن المصف المذكور تشريعي، وهو مخالف لكثير من الروايات التي تقول تكويني، كما أن في الرواية مجازفة خطرة، فإن الرواية تدعي أن هذا ( المصحف ) هو المرجع النهائي للأئمة، وأن القرآن يكاد يكون مرجعا ثانويا، وهو مخالف قطعا لما كان هؤلا ء الطيبون يذيعونه علانية بأن كتاب الله هو المرجع النهائي، وهو الكتاب الذي فيه كل ما يحتاجونه ونحتاجه، وإن فكر الائمة مستل من القران الكريم. على أن الذي يسهل الخطب أن الرواية غير صحية سندا، كما سأقوم بنقدها لا حقا، في حقل خاص عن روايات الصفار في المصحف.

إن العودة إلى روايات الأئمة الصحيحة عن القران الكريم، القائلة بتأصيله إلهيا، كاملا، شاملا، فيه ما يكفينا، تبيان لكل شي، إن هذه الروايات تنفي وتلغي مصحف فاطمة بهذه الهوية على أقل تقدير.
وأعود للقول أن المسلم الذي يبغي وحدة المجتمع الإسلامي هو الذي يبرز الجانب المشرق في كل مذهب من مذاهب المسلمين، ويدافع عن المذهب الآخر ما دام هنا ك في تراث هذا الاخر ما ينفي عنه كل تهمة بحقه، تتصل بإيمانه بكمال الإسلام وعظمة القرآن وتأبيد معجزته. أما السني ( الطائفي ) فلو يخرج محمد بن عبد الله من قبره وأعلن نزاهة المذهب الجعفري من هذه التقولات والزيادات لما نفع معه، كما هو الجعفري ( الطائفي )، فأن محمدا بن عبد الله لو بعث من جديد إلى هذه الدنيا وبرا السنة من تهمة التجسيد والظلم لما نفع معه.
يتبع