تغير الوقت ولم يعد يحتمل خلافا بائسا حول أوراق ٍ صفراءَ مهترئة..
خذ طائرتك الانسانية أيها الصديق واصعد عاليا.. سوف ترى التوصيفات الطائفية من فوق أصغر من نملة!
اصعد ولا تبق تحت، فانك أجمل بكثير من أن تبقى في الحضيض، وربما ستقول لماذا أصعد أنا؟ عليهم هم أن يصعدوا! لكنك إن صعدت سوف يتبعونك حتما، الجميع سوف يتبعك لكي لايشعروا أنهم في الاسفل، إن الانسان لايحب الأسفل، إنه محب دائما للأعلى، لكن لا أحد يشجعه ويأخذ بيده، إن المستفيدين من البقاء تحت هم القتلة الحقيقيون، وهم الذين لا يملكون أي معنى لأنفسهم فكيف يؤسسون معنى للإنسانية؟
ترفــّع ولا تبق رهن البحث عن فريستك الميتة، فإنك إن ترفعت ستطير خفيفا معطرا بفضاء النور، مزهوا بملائكة الخير، مسكونا برضا الرحمة.. وثق أيها الصديق بأن الطائفية مرض! هل أنت مريض؟ هل تريد أن تمرض؟ هل تحب العودة إلى زمن الجاهلية؟ الانتماء الطائفي ضربٌ من القبلية العمياء، إنه لايعنيك في شيء ٍ أبدا، ولست مسؤولا عن أخطاء التاريخ ومؤامراته الوسخة، ولست مسؤولا عن ناقة ٍ ضاعت في دهاليز الماضي.. ولست معنيا بمعاقبة التاريخ، وحتى لوعاقبته فإن عصاك سوف تضرب عائلتك ومصيرك والأجيال التي ستأتي بعدك.. إن الثأر لايحل مشكلات الحاضر، والفرز الطائفي لايؤسس مجتمعا متماسكا أنت اليوم في حاجة إليه لمواجهة تحديات الكتل البشرية الهائلة.. لاتنظر في حدود شبر واحد أمامك.. لقد تغير كثيرا، وكثيرا جدا!

لا تسأل صديقك من أي طائفة ٍ أنت.. فإنك إن فعلت ذلك سوف تحيزهُ خارجك، سوف تضعه في منطقة سوداء خلف وعيك ـ حين يكون من غير طائفتك ـ سوف تخرجه من وعيك بالحياة وتحرم نفسك قبل أن تحرمه، من متعة المحبة في فضائها الانساني الجميل، وسوف تدخل معه في نفق مسموم، مليء بالغازات السامة، وقد يحدث ذلك في صالة سينما فلا تعرف بعدئذ أي عالم إبداعي يطرحه الفيلم، أو قد يحدث في مطار فلا تعرف من صنع هذه الطائرات العملاقة التي تقلع وتهبط، أو قد يحدث على مقاعد الدراسة في الجامعة فلا يعود أي معنى لدورك المستقبلي الذي ينتظره المجتمع! إنك سوف تفقد متعة التأمل بالمستقبل والناس والمنجز الانساني الهائل الذي من أسف ٍ ليس لك فيه مكان أكثر من كونك مستهلكا...

مثلا، إذا كان ثمة شخصٌ شرير، ماالذي ينفع أن يكون من هنا أو هناك؟ وإذا كان طيبا، فماذا يهم إذا كان من هنا أو هناك؟ إن الانسان بتربيته أولا، وبطبيعة فكره، وضميره الحقيقي بغض النظر عن أية اعتبارات طائفية.. إعطه حرية الحركة في مسافتك وسوف يخجل أن يطأها، سوف يحترمها جدا ولو كان في داخله غرس إجرامي، أو تراكم جاهل، إنك سوف تنقذه من فقده لنفسه ووعيه ونظرته، إنك لست الغالب حين تدخل في صدام معه من أجل لاشيء، سوى ذلك الوهم البعيد الذي ورثته عن محيطك الضيق، وربما عائلتك البسيطة الطيبة التي لم يكن أفرادها على ما أنت عليه اليوم من وعي وحركة وتعليم وحداثة.. إنك سوف تخسر وتجبره معك على الخسارة، ويصبح لدينا خاسران، يتكاثران في المحيط المكاني الأول ثم الأوسع.. فيصبح الخاسران ألفا، ويصبح الألف مليونا.......

بادر أنت أولا، ولاتترك له شرف المبادرة، بالفهم أن لكل إنسان حق المعتقد في حدوده الخاصة، وأن البشر ليسوا سواسية ً فذلك ضرب من المستحيل، خذ هذه الفكرة من المدرسة وانظر لماذا تختلف درجات التلاميذ في الصف الواحد؟ المعلم ذاته يقوم بالتفريق بين مستويات التلاميذ، بين مجتهد وكسول، بين ناجح بامتياز وناجح بدرجة عادية، بين من ينتقل الى الصف التالي ومن يبقى يعيد صفه لسنة أخرى.. مع أنه هو الذي يدرّس ويتعب.. هي هكذا الحياة!

لاتستسلم للنعرات الطائفية، هل تعلم مامعنى ( النعرة )؟ يقال في الأمثال ( فلان فيه نعرة ) أي لايهدأ ويتصرف كالمجنون... والنعرة هي حشرة تدخل في أنف الدابة وتستقر في منطقة حرجة وتبقى الدابة تشخر وترفس وتحرك رأسها وتنام وتنهض وتبقى هكذا حتى تموت ( تنفق )!!! هكذا يراد لنا أن ( ننفق ) مثل الدابة، أن ننتحر بفعل كلمة وسخة من هنا ورأي مغرض من هناك، أن نتقاتل ونظلم وننسى العدل والمحبة فنتحول إلى... قل أنت إلى ماذا نتحول؟ أكيد ستقول نتحول إلى أصغر من نملة ينظر إليها الأعداء من فوق ويسهل سحقها بأقل التكاليف! هاأنك عرفت النتيجة فماذا أنت فاعل؟
إذا كنت حريصا على معتقدك، فإنك بالحقد والكراهية ونبذ الآخر، تفقد معتقدك، تخربه، تحوله إلى منطقة نفور وطرد، لكنك في الغالب لاتعرف جيدا عن ماذا تدافع! وما هي الأسس التي ترغب أن تثبتها في سلوك الآخر وفكره، ولا تعرف تماما لأي سبب واضح أنت تنبذ هذا الآخر، وربما لو تقدمت خطوة باتجاهه ستشعر بمعرفة جديدة وإضافية، المعرفة قوة، فلماذا تبقى ضعيفا؟ هل تعرف ( عين عذاري )؟ إنها حكاية عين ماء في البحرين يقال إنها تسقي البعيد وتترك القريب ظمآنا.. أحيانا تكون لك صداقات طيبة مع أناس من غير دينك، وتذهب معهم بعيدا في العلاقة الطيبة، لكنك مع أبناء دينك من الطوائف الأخرى تشمئز وتذم وتنفر، هل تعلم أن ذلك نوعا من الجهل؟ بل هو الجهل بعينه، لأنك لم تنظر إلى نقاط اللقاء مع أبناء جلدتك، مثلا ( هو عربي ومسلم ومن أبناء وطنك ) فقط هو من غير طائفتك، حسنا خذ الثلاث صفات واترك الواحدة، فهي في البداية والنهاية ليست أساسية في معترك الهوية الحقيقية من منظور المصير والمستقبل الاجتماعي والاقتصادي والديني وحتى الاخلاقي.

إن الرموز التاريخية مسألة نسبية ( عدا الرموزالثابتة والمقدسة وهي ليست محل اختلاف ) مثلا أنا أحب المتنبي، وأنت ترى أنه شخص مداح يركض خلف من يعطيه المال، أنت لاتحب الأمويين لانك تعتقد أنهم جردوا الاسلام من أهم ركيزة في الحكم وهي الشورى، وأنا أعتقد أن فترتهم كانت فتحا لتأسيس دولة قوية ومنظمة بالمواصفات الحديثة للدولة، وتطول القائمة حتى تصل إلى ما لايمكن احتماله، فهل تنوي إيصالها إلى عشرات بل مئات الأجيال من بعدك؟ وهل علينا أن نهدم السقف الذي نعيش في ظله لكي نتشظى في فضاء العداوة والتناحر؟

ذات صدفة ٍ غير جميلة، شهدت حوارا بين ( شابين عربيين مسلمين فنانين فقيرين وجميلين ) قال الأول بلغة احتجاجية وكأنه يتهم صديقه : هل يعقل أن يكون في إيران قبرٌ يزار ويقدس للمدعو ( أبو لؤلؤة ) قاتل الخليفة عمر بن الخطاب؟ فرد عليه الثاني بنفس الاحتجاجية : وهل يعقل أن يقدس البعض يزيد بن معاوية ويحتفلون فرحا في يوم العاشر من محرم بقتل الحسين؟
ياألله.. من حمــّل هؤلاء الشباب كل هذا الإرث، وكيف وصلت إلى موائدهم قشور القشور وضاع اللب في طريق ٍ طولــُه نحو ألف وخمسمئة سنة؟ وبعد قليل ساد المكان صمت، وبدا الحاضرون من فوق أصغر من نملة... قلت لهما : حسنا، فماذا أنتما فاعلان؟؟؟؟

[email protected]