بسم الله الرحمن الرحيم
أولا
1 ـ عاش المصري أروع قصة حب مع وادي النيل استمرت سبعين قرنا من الزمان المتصل منذ أن فتحت الإنسانية عينها وإلى الآن، وخلال تلك المدة الطويلة اتحد المصري بتراب وادي النيل ورفض أن يغادره، جاءه الآخرون ضيوفا أو مستعمرين فتعامل معهم بتسامح وتعلموا منه حسن العشرة وجمال الصحبة، لم يحدث في تاريخه الطويل أن تعصب ضد مغترب أو تطاول في أرضه على أجانب بل كان يفتح لهم بيته وقلبه ويؤثرهم على نفسه دون أن يصرخ بقصائد الفخر ويرائي بما يفعل، وكأنما استجاب الله تعالى لدعوة يوسف عيه السلام وجعلها تنطبق على مصر في كل زمان ومكان، إذ أن يوسف قال quot; ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين:12/ 99 ومصر لا تزال الأمن لكل أجنبي خائف، وحتى أولئك الذين أساءوا إلى أهلها ما حرمتهم من حنانها وكنفها حين احتاجوا إليها وغدرت بهم أوطانهم..
2 ـ وفي العصور الإسلامية كانت إلى مصر الرحلة في طلب العلم ولقاء الشيوخ، وإلى مصر وفد الشافعي والليث بن سعد وابن خلدون وأئمة العلم من كل لون فاستقر بهم المقام في أرض الكنانة وماتوا فيها ولم يهجروها إلى غيرها.. وإذا كان هذا حال الغرباء الذين تمصروا فكيف بالمصري الذي ارتبط بمصر هو وأسلافه منذ عشرات القرون؟. لقد عاش الفلاح المصري ملتصقاً بالطين المصري لا يعرف غيره، وإذا انتقل بضعة كيلو مترات بعيدا عن قريته أقسم بالغربة. وقلما سافر الفلاح المصري خارج مصر إلا في مناسبة الحج وكان يسارع بالعودة ليطمئن على الأرض والأولاد والبلد..
3 ـ هكذا كان تاريخ الفلاح المصري من بداية الحضارة حتى منتصف السبعينات في هذا القرن تقريبا.. فقد فوجئ المصري بعد انتصاره في أكتوبر 1973 م أن اقتصاده وصل للصفر، وأن الأشقاء الذين احتملهم طوال التاريخ والذين حارب من أجلهم ومن أجله أيضا قد جنوا وحدهم ثمار النصر مليارات من عوائد البترول الذي ارتفعت أثمانه بفضل الدماء المصرية، ولأول مرة شهدت الأرض المصرية نزوح الفلاح المصري عنها إلى الدول العربية الشقيقة ليعمل ويعرق لقاء دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين.. وكعادته في التحمل والرضا بالقليل ازدهرت البلاد العربية الشقيقة في المدن والصحاري والعمائر والطرق والمزارع على أكتاف المصري وبأجور زهيدة وبلا كلمة شكر.. بل تحمل المصري الكثير من الأذى والاضطهاد والأحقاد وسوء المعاملة من بعض الحكومات ومن أغلب الأفراد quot;الأشقاءquot; الذين كان يحلو لهم أن يأخذوا بثأرهم الشخصي منه ويعتبرون ذلك المصري العامل هو المسئول عن الهزيمة والاستسلام وتقلبات السياسة وتقلبات الطقس والأحوال الجوية!!
4 ـ وفي كل قرية مصرية عاد بعض أبنائها وقد امتصت السخرة العربية حيويتهم في مقابل الأقل من القليل الذين سرعان ما يذوب في أيديهم وسرعان ما يسقطون مرضى ثم يموتون في ريعان الشباب، وهم لفرط سذاجتهم كانوا ينوون العودة لاستكمال بناء البيت أو لاستكمال مهر الزواج أو لشراء قيراط من الأرض. وفي كل بيت مصري تجد واحدا على الأقل سافر وعمل في البلاد العربية وعاد ومعه ذكريات لا تنسى ولا تمحى من المرارة والذل والاضطهاد الذي لا مبرر له إلا فقر المصري وحاجته للعمل ثم عقد النقص عند الآخرين التي تجد الشفاء في أن تنفجر في المصري المسكين.. والمصري المسكين يحتمل وعينه على المرتب الذي يعني له تحقيق بعض آماله هو وأسرته وأهله، ويعود المصري في أجازة يختال بين أقرانه في البلد وهو ينشئ بيتاً أو يركب سيارة ويتباهى في أحاديثه بأنه صاحب الأمر والنهى وأن صاحب العمل يسمع له ويطيع.. وقد يصدقه بعض السامعين، وبعضهم يتظاهر بالتصديق، والقليلون هم الذين يعرفون أنه يحتاج إلى تأليف تلك الأكاذيب ليرفه عن نفسه وليستعين بها على أرضاء كرامته الجريحة ونسيان ما حدث له وما سوف يحدث عند العودة.. ولو أتيحت الفرصة لكل مصري عائد أن يفضفض عن آلامه وأن يصرح بما ترسب في أعماقه لسمعنا قصصاً أغرب من الخيال نتيجتها الوحيدة أننا نحن الذين جنينا على أبنائنا حين جعلناهم يهجرون الأرض الطيبة لأول مرة وبصورة جماعية لم تحدث منذ سبعين قرنا من الزمان.
5 ـ لقد آن الأوان لكي نقف وقفة مع أنفسنا، فلدينا أعظم استثمار وهو القوة البشرية المتمثلة في الشباب ما بين( 15: 45) وهم أغلبية السكان، ثم لدينا أعظم العقول والمهارات في المنطقة كلها، ولدينا أعظم وادي وتربة زراعية، ولدينا وحوالينا مئات المليارات من الأموال في البنوك الداخلية والخارجية. ولكن ذلك كله ثروات معطلة لسبب بسيط وهو الفكر الذي تسير عليه الحكومة والذي توارثته منذ ثورة يوليه. ذلك الفكر الذي يجعل الحكومة تتدخل في كل شيء لتفسد كل شيء وتعرقل كل شيء وتصدر قرارات وقوانين متضاربة في كل شيء.. والنتيجة أن يشيخ الشباب وهو بلا عمل وأن تتصحر التربة الزراعية ويهجرها الفلاح المصري إلى حيث المهانة والذل، ثم تهاجر العقول المفكرة أو تنزوي، وتهرب رؤؤس الأموال، وتظل الحكومة تخطط للرخاء الآتي سنة ثمانين ثم سنة ألفين ثم سنة ألفين وعشرة وهكذا.
من الممكن حل هذه المعضلة بتغيير فلسفة الحكم ودور الحكومة، وهذا ما فهمه العالم الشيوعي سابقاً ورجع إلى الحق.. وهو أن دور الحكومة ينبغي أن يكون محصورا في إقامة العدل وتوفير الأمن والعلاقات الخارجية وتحصيل الضرائب وفقا لمعايير ثابتة وعادلة.
وتحديد دور الدولة في هذا الإطار يستلزم مراجعة كاملة للدستور والقوانين وبعضها صدر في القرن الماضي، وربما لا توجد دولة متخمة بالقوانين والقرارات والتشريعات أكثر من مصر!!. وتلك إحدى مظاهر تدخل الدولة في كل شيء.. وإذا اكتفت الدولة بدورها في توفير العدل والأمن انطلق المواطنون إلى العمل وأحس الشباب بالانتماء واكتست الصحراء بلون الخضرة من حلايب جنوبا إلى رفح شمالاً، وسيعاد توزيع السكان على نحو آمن، فلن يتركز الملايين في القاهرة ولكن ستولى الملايين وجهها نحو أطراف الوادي والواحات وسيناء. وتنشأ مجتمعات جديدة توفر الأمن والغذاء لكل مصري في أرضه الطيبة. وسيعود أبناؤنا من الغربة ويتوقف الأنين وتندمل جراح الكرامة المصرية !!
6 ـ ذهب الشاعر الطبيب حسن أحمد عمر إلى بلد عربي فلقي ما لاقاه كل مصري مثله من ألوان العجرفة والغطرسة، وحاول أن يتحمل وأن يهادن وأن يتصنع فلم يستطع، فترك الوظيفة وعاد بعد شهرين، بعد أن سهر ليالي الأنين في الغربة يخاطب حبيبته مصر التي هجرها مضطراً.. يقول الشاعر:
* حبيبتي الطاهرة.. وجوهرتي النادرة..
* أرفض أن أصبح أفعى يلعنها كل الملدوغين
*أقصد كل المخدوعين..
* أرفض أن أحيا رعديداً
*أحرس بيت دعارة..
*أمسح بوساخاتي كل طهارة
* أرفض بيع اليوم الآخر وشراء الدنيا..
* أرفض أن أصبح كلبا ينبح في حارة
* أرفض أن أصبح عقب سيجارة
*أرفض أن يتحطم برج القيم الكبرى
* من أجل رنين المال..
*أرفض أن أصبح محتال..
7 ـ أقترح أن يكتب كل مصري تجربته المريرة في الغربة، وأن تجد كل التجارب طريقها للنشر، كي يقتنع الجميع بأن الحل هو بناء مصر بدستور جديد وفلسفة جديدة.. وإلا سيظل أنين الغربة المصرية في خارج مصر.. وداخلها أيضاً..!!
ثانيا
ملاحظة
1 ـ نشرت هذا المقال فى جريدة الأحرار بتاريخ 30 /3 /1992 ، و كنت اعانى الغربة داخل وطنى، وأرى أحواله تنهار شيئا فشيئا.
والآن ، و بعد خمسة عشر عاما ـ وبعد النفى الاضطرارى ـ استرجع نفس المقال ، وقد إزداد الحال سوءا فى مصر، و أصبحت أعانى من غربة مزدوجة تعصف ببقايا قلب جريح .
وما أصعب الحنين فى خريف العمر ..
2 ـ كان الله تعالى فى عونك يا مصر ..!!
التعليقات