يولد المثقف الفاشي غالباً في المجتمعات الفقيرة المغلقة، وفي الأغلب تحت خيمة التعصب والتطرف الدينيين. فإذا اجتمع له هذان الشرطان، فإنه يصدر في كل ما يقوله أو يكتبه، عن نظرة أحادية، لا تسمح له بأن يرى التعدد والاختلاف في الأفكار والاجتهادات فحسب، وإنما لا تترك له فسحة أن يتسامح أو يتعايش مع المختلِف، سواء كان هذا المختلف زميلاً له في حقل الكتابة مثلاً، أو عدواً تاريخياً نهبَ أرضه، وأضاع مستقبل الأجيال من مواطنيه.

إن لدينا، في الحالة الفلسطينية ذات الخصوصية المأساوية، قليلين من نموذج هذا المثقف الفاشي، من حسن الحظ. فتلك الحالة صهرت معظم المثقفين، ووسّعت من مداركهم، بحيث باتوا يقبلون تعدد الرؤى واختلاف زوايا النظر بينهم، كأمر طبيعي ومرغوب، بل كتقليد ثقافيّ قديم، يزيد من غنى وحيوية الحياة، ويمنحها الكثير من معناها المؤجل والغائب.
ومع ذلك، لا تستدعي هذه الحقيقة الثقافية الجيدة، أن نغضّ النظر عن وجود فئة من هؤلاء الفاشيين الذين ينتسبون لثقافتنا الوطنية، ولو بحكم الجغرافيا فقط. فهؤلاء في الواقع لا ينتسبون لثقافتنا الوطنية، التي عرفناها خلال قرن كامل من الزمان، ملونة بكل ألوان الطيف الثقافي والسياسي : من أقصى اليسار التروتسكي، حتى أقصى اليمين القومي، مروراً بالتصعلك الوجودي، والنزعات العدمية.. إلخ.
بل ينتسب هؤلاء تحديداً، إلى فئة الإسلام السياسي الأكثر تطرفاً، وما يتمخض عنه، من مقتربات ثقافية بدائية. إنهم فلسطينيون بالمولد لا بالثقافة. فلسطينيون ولدوا في مخيمات البؤس والعوز الفكري، فنشأوا على [عقلية الكهف]، بما تتضمنه هذه من علامات فارقة : مثل كاسيتات عبد الحميد كشك، ثم في مرحلة لاحقة، تسجيلات أسامة بن لادن وأيمن الظواهري [وحديثاً صدام حسين بعدما صار هذا شهيداً وبطلاً]. ومن هنا، من أدران هذه الثقافة الشائهة، خرجوا إلى حقل الكتابة والأدب، ليكتبوا الروايات والمقالات الرخيصة المسمومة، التي لا تجد من ينشرها من المواقع المحترمة، فتذهب إلى مواقع [كلّ ما هبّ ودبّ].

غثاء من المقالات والكتب، لا غاية لها سوى نشر السواد في الأرض، والاعتداء على كل ما هو حيّ وجميل في بلادنا، بداية بقصيدة النثر ووصولاً إلى رأس المرأة السافرة، وانتهاءً برموزنا الوطنية والإبداعية الكبيرة، ومرمغة سمعتها وإنجازاتها في وحل الأرض. فلا وظيفة لهؤلاء، إن كان ثمة من وظيفة، إلا محاصرة آخر ما تبقى لنا من بؤر الحياة، على قلّتها، لردمها. فتلك هي ثقافتهم، إن جاز لنا أن نسميها كذلك : ثقافة الموت. ثقافة الهدم والإلغاء والإقصاء، تحديداً وتخصيصاً، دون توفير أي نوع من البدائل الأرقى. وأنى لهم أن يوفروا البديل وفاقد الشيء لا يعطيه؟
لقد اجتاحَ هذا النوعُ من المثقفين الفلسطينيين الفاشيين، فضاءَ ثقافتنا الوطنية، في العقديْن الأخيريْن، مثلما الوباء. مسلّحين بما يفضح فقرهم المعرفي والإبداعي من إنشاء مدرسي مبتذل، ومن ترسانات تخوين المثقفين الوطنيين، والتخرّص عليهم بأبشع التهم.

ولأنهم ما زالوا مثقفين هامشيين لا يُعتدّ بهم، فإنّ الكلُّ الثقافي الفلسطيني، غافلٌ عنهم ولم يلتفت إلى خطورتهم بعد. ومن هنا، من هذه النقطة بالتحديد، أودّ أن ألفت الانتباه، إلى خطرهم القادم، فيما لو تُرك لهم الحبل على الغارب.
فهؤلاء خطرون بكل معنى الكلمة، لأنهم - ببساطة - فاشيون بكل معنى الكلمة. فهم يظنون أنفسهم وكلاء المقدس على الأرض، والناطقون الوحيدون باسمه، وبالتالي فهم مقدسون مثله، و[quot;قديسونquot; كما كتبَ أحدهم عن نفسه، دون أن يعرف فضيلة التواضع!] وربما فوق مستوى البشر ! إنها التربة ذاتها التي يخرج منها معظم الفاشيين في شرقنا التعيس وفي أشباهه من بلدان العالم. فقر وضيق أفق وعصاب نفسي وتديّن مزعوم. فإذا وصل هؤلاء إلى مكانٍ ما في تنظيماتٍ ما، فلنا أن نتوقع كل ما هو مرعب منهم : لنا أن نتوّقع القتل ولا أقل من تنفيذ هذه الجريمة.

إن بلادنا، رغم خصوصيتها السياسية، ووقوعها تحت الاحتلال، ليست في منجى من خطر هؤلاء. وما حدث في غير بلد عربي، مصر والجزائر ولبنان على سبيل المثال، من قتل وذبح للمثقفين الوطنيين، مرشح للحدوث في بلادنا، على أيدي هؤلاء الفاشيين. وما الدعوات إلى تكفير وتخوين بعضنا، إلا الدليل على إمكانية أن نعاني، ونحن ما نزال تحت الاحتلال، ما عاناه نجيب محفوظ وفرج فودة وسيد القمني وحسين مروة ومهدي عامل وسواهم. فالتكفير والتخوين، كلاهما قتل معنوي، ينتظر من ينفّذه في مرحلة لاحقة، ليكون قتلاً فيزيائياً. وبما أننا نعيش تحت حكم الميلشيات والمافيا السياسية، فإنّ الظرف لدينا مناسب أكثر مما هو كذلك في البلاد المحيطة بنا. فهنا في بلادنا، يحتاج الأمر فقط إلى كتابة مقال أو إصدار فتوى، من مثقف فاشي مهووس، حتى يتلقاها مسلّح مهووس، فتأتيك الطلقة الجبانة في العتمة، وأنت تتمشى على رصيف شارع.

إنني أدق ناقوس الخطر، ليس لأنني تعرّضت وما زلت أتعرّض لهذه التهم فقط، ومن أكثر من طرف، سواء كتابةً أو شفاهة، وإنما لأن الوباء قادم بكل جنونه وهذيانه، ما لم ينتبه له المثقفون الوطنيون الفلسطينيون، العلماني منهم والإسلامي، وما لم ينتبه له المجتمع المدني بمختلف مشاربه، وجميع مؤسسات السلطة على تنوّعها. وإذا كان حجم هؤلاء صغيراً وهامشياً ما يزال، فإنهم سيكبرون وسينتشرون في المستقبل. فلا أقل من عزلهم ومحاسبتهم، وتعريضهم للمحاكمة، درءاً لخطرهم الحالي والقادم.

إن هؤلاء غرباء وطارئون على الثقافة الوطنية الفلسطينية. ولو خلا لهم الجو، ومُكّنَ لهم، فلن نرى إلا التصحر والسواد، يتسيّدان ساحتنا الثقافية، بعدما تسيّداها أو كادا سياسياً.
وللتدليل على هول ما ينتظرنا، أحيلكم فقط إلى [أبطال] هؤلاء ومرجعياتهم ونماذجهم العليا : كشك، بن لادن، الظواهري، وأخيراً : صدام حسين. فماذا تنتظرون من فئة تنظر إلى هذه الأسماء كأبطال في سلالة مقدسة أين منها سلالة الأولمب؟
وماذا ينتظر المجتمع المدني الفلسطيني من هؤلاء، وهم يضيّقون كل واسع، ويقتلون كل صورة زاهية، وصولاً ربما إلى جعل فلسطين أفغانستان الثانية؟

المؤسف حقاً، بل المفجع والجالب للعار، وجود أمثال هؤلاء، حتى داخل وزارة الثقافة الفلسطينية. يعملون على ملاكها، برتب وظيفية عالية، ويُرسلون للخارج لنيل الشهادات العليا على حساب لقمة المواطن البسيط، ثم يعودون فيدبجون مقالات التكفير والتخوين من خلال خدمة الأنترنت الموجودة بها، وأثناء ساعات الدوام الرسمي. بل فوق ذلك، ينشرون كتبهم في اتحاد الكتاب الفلسطينيين العظيم، ليُضاف إلى ما سُرقَ من أموال الشعب الفقير، عدة آلاف من الدولارات أيضاً !
ولكي لا يساء فهم كلامي، يتوجب التنويه بأنّ بعض هؤلاء الفاشيين المحسوبين على الثقافة الفلسطينية، في أفقها العام وفي مؤسساتها، دخلوا إلى مبنى الوزارة، وصدرت كتبهم عن منشورات الاتحاد السلطوي، في عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات، وبمساعدة وتواطؤ من مثقفين فتحاويين معروفين، وليس في عهد حماس أو زمن حماس. أدخلهم الرئيس الراحل، بناء على حسابات خاصة به، لا تمتّ للثقافة بصلة، في الوزارة وفي الاتحاد معاً !

وهم عموماً لا يهاجموننا وسوانا فقط، بل يهاجمون كتّاباً معتدلين من حماس أيضاً. ما يدلّ على مقدار فاشيتهم وتطرفهم، وعلى مقدار خطرهم القادم، فيما لو مُكّنَ لهم.
مرة أخرى أقول حذار من وباء هؤلاء القادم. اليوم يخوّنننا، وأمس خوّنوا إميل حبيبي، وغداً يخونون الجميع. خوّنوا كل اليسار الفلسطيني من قبل وجعلوه عميلاً لإسرائيل، واليوم يخوّنون حتى حماس، فماذا تنتظرون، أيها الأخوة المثقفون في فتح، وماذا تتوقعون؟
أمع أمثال هؤلاء يمكن لكم أن تتحالفوا حتى ولو مؤقتاً؟
آمل ألا أرى هذا اليوم.