مؤسف أن يصبح أسم العراق معنى وإشارة إلى مكان للخوف، وأن يتلبس العراقي الخارج منه صورة اللاجئ في كلّ أرض، فالمتراكم التاريخي، والجغرافيا العجيبة لهذا البلد، كان من المفترض أن تجعله الأغنى والأجمل، والأكثر عرضة لاستقطاب اللاجئين!!..
ولكنhellip;hellip;................
وهل تكفي هذا الأسطر المتروكة لمخيلة القارئ أن تختصر التاريخ، وأن تضجّ بجغرافيا شوهها الطغاة، وأن يختصر فيها نكبات العراقيين؛ نزوحاً مريراً في كلّ زمان؟..
ستتعدد عبرها الأبعاد لمعنى العراقي المطارد في التاريخ كلما اقتربنا من الحاضر لنصل إلى أقسى مراحل المعنى في الهزيمة والتشرد والوجع.. فإحصاءات مفوضية اللاجئين هي الفرقان وهي ما يفصل الخيط الأبيض عن الأسود في الدليل، وكلمة المفوض الأعلى للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أنطونيو غوتيريس الذي يقوم بجولة في الشرق الأوسط للإشراف على برامج مساعدة مئات الآلاف من اللاجئين العراقيين في المنطقة، وتأكيده على ازدياد أعداد الفارين من العراق عن خمسين ألف كل شهر، توثّق لأهم رقم وحركة نزوح في الشرق الأوسط بعد الفلسطينيين في 1948..

أخبار قومية سارة
سيفرح المتقومجون الجدد باقتران اسم العراق بفلسطين، وربما سيعتبرون إنهم حققوا جزءاً من أهدافهم بالوصول إلى هذا الاقتران كخطوة أولى، وبجعل العراق قضية مركزية كخطوة ثانية، طالما كانت من أولويات نظام ديكتاتوري دفع أروح الآلاف بحثاً واهماً عن معادل موضوعي في تحرير سينتهي بفلسطين..
وسيجد كلّ ذي غرض حاجته الآن في استثمار مثل هذه الأخبار، بدءاً من تجار الخضار السوري!!، حيث أُعلن عن ارتفاع أسعار المواد الغذائية في سوريا بسبب ازدياد أعداد اللاجئين العراقيين!.. وانتهاء بالمافيات التي ستتشكل إمعاناً في الفساد من أجل تنفيذ طلبات المفوضية العليا للأمم المتحدة للاجئين لزيادة موازنة المساعدة للمهجرين في الداخل واللاجئين في الخارج.. فالقاعدة في النكبات العربية تقول: مصائب قوم عند قوم فوائد.
أقولها و بي وجع تجربة لجوء عراقي عشت تفاصيلها لسنوات، وخَبرتُ آلامها ابتداءً من رعب مافيا تشكلت في معسكر اللجوء، تسطو وتسرق رغيف اللجوء اليومي، وانتهاءً بتجارة الرقيق في ذلك المعسكر على مشارف العولمة..
كتبت عن هذا وأنشغل في كتابة طويلة عن ما أسميته quot;برزخ بين جنتينquot; في وصف الماضي وأمل المستقبل مع المعاش والمجترح من آلام اللجوء.. ولم يكن العراق جنة بالطبع لكنه الخطوة المحيرة في الحنين إلى الأهل.. وفي حسرة العراقي الأخيرة على الحدود..

يوم كان العراق معسكر لجوء كبير
بعد هزيمة الطاغية وتوقيعه على وثيقة صفوان للاستسلام، أصبح العراق كلّه معسكراً للاجئين تنفق عليهم الأمم المتحدة في برنامج quot;النفط مقابل الغذاءquot;، وكان العالم ينشغل عن العراق ومأساته تلك بثلاث كلمات أخرى هيquot; السلام مقابل الأرضquot;.. في مدريد 1991 حيث صدح العرب بأناشيد سلام الشجعان ومدريد السلام القائم على العدل!!.. ولم يكن ثمة عدل في النظر إلى المشهد العراقي.. ففي تلك السنة سجّلت أكبر موجة نزوح في تاريخ الشرق بعد أن دخل جيش الطاغية إلى شمال وجنوب العراق.. وبدأت مرحلة من أخطر مراحل التاريخ العراقي عبث خلالها الديكتاتور الأهوج بأرواح العراقيين أي عبث، وكانت الأمم المتحدة شريكاً أثبت تورطه في ملفات النفط مقابل علف الماشية وفاسد الأغذية ومشبوه الصفقات.. حتى ذاق أهل العراق هواناً اقتصادياً ليس له مثيل، دفعهم للهجرة بالملايين هرباً من ضغوط السياسات اليائسة للطاغية ورعب اليوم العراقي..
وضاعت دموعهم؛دماً بين القبائل.. واحتشدت بهم أرصفة البلدان، وتاجر بدمائهم كلَ مفلس، حتى قتل منهم في يوم واحد أكثر من 400 لاجئ ابتلعتهم أمواج المحيط ليصبحوا شهود الدهر على مأساة اللجوء العراقي..

صورة العراقي لاجئاً
ازداد فرار العراقيين بشكل طردي مع ارتفاع مناسيب الرعب والقمع، وصولاً إلى أقسى أنواع التعذيب والترهيب بقطع الأطراف والآذان وسمل العيون.. و لم تكن كل هذه الصور كافية لاستحقاق العراقي لجوءاً في أكثر بلدان الأرض فطالما بقي الآلاف منهم رهن التحقيق والتدقيق لسنوات مريرة، أملاً من هذه الدول بحلول سريعة للملف العراقي بسقوط النظام وعودة الملايين.. لكن هذا الملف تعقّد بشكل أكبر بعد زوال الطاغية. ودخل ملف اللاجئين مرحلة معقدة أخرى، مع الضغط الدولي الهائل للحد من ظاهرة الهجرة واللجوء. وتمت اتفاقات بين الدول الأوربية خاصة للتعاون بشكل أكثر جدية، وكانت جديتهم مثار سخرية بالمقارنة وبقية قوانينهم، حيث تتعارض القوانين الجديدة بحق اللاجئين مع ما ألزموا به أنفسهم قانوناً لحقوق الإنسان..
في الجانب الأشد قتامة من الحكاية؛ كان موضوع اللجوء عملا مربحاً للمهربين ومافيا التزوير، حتى وصلت الاتهامات إلى متنفذين سياسيين كبار اكتشف تورطهم في ملفات التهريب والتزوير، معروفة أسمائهم في بعض المطارات العربية والشرق أوسطية، ورجالهم أصحاب سطوة وبطش، يتحكمون بالمصائر ويمتلكون الكثير.. في الوقت الذي بقيت فيه صورة العراقي لاجئاً مثار شك لدى سلطات البلدان التي يصل إليها باعتبار وجوده غير شرعي والطريقة التي سلكها غير قانونية ظناً منهم بتعامل الكثير من اللاجئين بالتزوير والخداع، حتى التبس الأمر واختلطت الأوراق وأمتدّ الاتهام ليطال كلّ وجه عراقي في بعض البلدان.. وليصبح التعامل مع اللاجئ موحشاً ومنفراً، بعد تقليص الممنوح له إلى أدنى حد، وتضييق الخناق عليه في أماكن تواجده في معسكرات اللجوء بانتظار الحلول..

وهم الحلول العالمية لأزمة اللاجئين العراقيين
يعوّل بعض اللاجئين في دول الجوار على حلول عالمية الآن لأزمة طال أمدها، وبالكاد تتناقلها وسائل الإعلام.. فمن سمع بجهرم و ازنا وزيوا؟.. هي ليست أسماء نجوم في المجرات البعيدة.. وإنما معسكرات لجوء أبعد من تلك المجرات تضيع في غياهب الجارة إيران..
وأي مكيدة للمصائر تلك التي تبقي معسكراً لطالبي اللجوء 16 عشر عاماً في عمق الصحراء العربية لا لشيء إلا الخروج على سلطة الطاغية؟
وكم يبدو سعيداً المفوض الأعلى للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين انطونيو غوتيريس وهو يشرف على إغلاق معسكر رفحاء.. بحثاً عن فرصة لإنشاء معسرات أخرى جديدة في دول الجوار؟!..
وكم ستبدو ألمانيا بائسة العطايا وهي تتبرع بنصف مليون يورو لإغاثة الممتحنين في سوريا والأردن؟.. مبلغاً تنفق ألمانيا أضعافه المضاعفة شهرياً على مركز واحد لاستقبال اللاجئين على أراضيها؟.. لكنها مع هذا خطوة في اتجاه الإنسانية بالنظر إلى ما تواجه به الكثير من الدول ميسورة الحال مصائر اللاجئين..
مصائر ما أسهل أن تصبح صيداً في مقامرات دول الجوار.. المنتظر لها عما قريب إقامة مؤتمر موسع حول هذا الموضوع.. ما الذي سيضيفه هذا المؤتمر غير ركام جديد من التوصيات؟.. وما الذي ستقوله اللجنة الأخيرة التي أوعز الكونغرس بتشكيلها لدراسة وضع اللاجئين العراقيين؟..
أسئلة لن تجد وافي الإجابات بالقطع.. فمعضلة اللاجئين العراقيين تبقى قضية تمتد مع الألم اليومي في الشارع العراقي، وتنزف عنه سيلاً دامياً من المشردين.