quot; المشاعر العميقة، كالاعمال العظيمة ، تعني دائما اكثر ما تدرك قوله quot; ( كامو ــ اسطورة سيزيف )
قبل أن يغرب عصر يوم الأحد الماضي، قرأت الخبر برسالة من دمشق بعث بها إليّ الشاعر رياض النعماني ldquo;أعزيك برحيل رفيق الرحلة الحزينة، لقد انتحر مهدي علي الراضيrdquo;. ندت مني صرخة طويلة، ثم أغلقت نوافذ مشاعري وأبوابها. وبقينا، أنا وزوجتي، نستعيد كثيراً من الأشياء والمواقف التي لا تدرك: ماذا يجدي الدمع؟
كأن جمر قلبي قد أوجرته ذاكرتي مرة أخرى: في صيف بغدادي، ذات مساء من يوم خريفي، في حديقة اتحاد الأدباء العراقيين ببغداد، وقف على رأسي شاب كوّم جسده داخل ملابس عادية، وقال كأنه منتشٍ: ldquo;لقد اعتدوا عليَّ، لأنني أعدت عليهم ذكر اسمكrdquo;.وفاة الكاتب العراقي مهدي علي الراضي مشنوقا
كنا في الحديقة المعتادة، الشاعر حسب الشيخ جعفر، وأنا، في انتظار حسين مردان وأحمد خلف، لنواصل ما انقطع من سهرة الظهيرة السابقة التي تتواصل مع ظهيرة اليوم في ldquo;مطعم السويسrdquo; بشارع الرشيد، ثم تتصل بمجلسنا في الحانة الصغيرة التي بشارع تونس، بالقرب من تمثال السعدون، ولا تنتهي بحديقة اتحاد الأدباء العراقيين، ليلاً.
أعرف أولئك الذين ldquo;ضربواrdquo; مهدي علي الراضي في ذلك المساء من سنة 1971. بعضهم رحل في صمت، وبعضهم الآخر انتهى خفراء عند ناشرين لصوص، وآخرون نسوا وطناً اسمه العراق.
وأعرف مهدي، مهدي علي الراضي، الطفل الذي بلغ الكهولة فجأة، يوم اكتشف المسكوت عنه في حياتنا السياسية، فأخذ يلعب مع الذئاب والأسود والحيات، من دون أن ينسى أن الذي يسير قرب دكان القير، يتسخ بدخان القير.
وفي ليالينا الطويلة ببغداد ، حين كنا نشتغل بذبالات حياتنا الاضافية ، وبعدما صارت الاحزاب جواليق ملئت تبنا وفئران نافقة وحية، ووشاة من طرز ثورية وقومية واسلامية ، استعدنا اخطر ما في تراثنا ، واشرف ما لدى سيرغي يسينين : حياة الرصيف .
كان مهدي يلعب مع الكبار بدمياته الطفولية: يؤسس صحفاً، ويوالف بين متناقضات، ويؤاخي بين أعداء أو متعادين، وفي الوقت ذاته يكتب إليّ، مطالباً أو معاتباً، ويقترب أكثر فأكثر من مظفر النواب ورياض النعماني، وعدد آخر من العراقيين الذين يتفرجون على الكوميديا العراقية في سوريا.
كوميديا : هاهو يرى المناضل المقنع بتاريخه الثوري يتحول الى مغتصب لرفيقاته ، وذاك هو الاسلامي المجاهد الذي استحال تاجر ذهب ، وتلك التي تتحدث عن الفضيلة تتسلل الى بار quot; الكريسي هورس quot; في الصالحية .
وكان يقول لي : سوف العب كوميدياي الخاصة .
لكن هذه الكوميديا العراقية انتقلت الى أمريكا، وقبلها كانت في بيروت، وفي كردستان العراقية، ثم توطنت في عمان الأردنية، وسرت الى أوروبا، ووصلت الى كوريا، ولا تزال تشرق وتغرب، وانضم اليها ملايين جديدة من الأكاديميين والجنود والضباط والتجار وعلماء الدين وخبراء القتل وطلاب العودة الى الثأر.
في أمريكا، ثم بعد عودته الى العراق، اكتشف مهدي علي الراضي، الآفاق الأخطر لهذه الكوميديا العراقية، كما لم يكتشفها أحد من هؤلاء الذين صاروا سداها ولحمتها: العراق الجديد، كذبة، وكذبة لا يصدقها حتى صُنّاعها.
قبل أن يعود الى دمشق، كلمني عبر الهاتف من اتحاد الأدباء العراقيين، بعد حفلة استذكارية لي أقامها الأصدقاء هناك، وقال: ldquo;كُلها سخام، يا أبا عمار، لقد سرقوا البلاد كلها، كأنهم يقولون لي: انتحرrdquo;.
ليس رثاء لمهدي. انه توصيف للقتلة الأحياء، الذين سبق ان علسوا مهدي حيا ، وعلسوه حيا ايضا ، ولسوف يعلسوه ميتا ، او مشنوقا ، وهو في قبره .
[email protected]
[email protected]
التعليقات