خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز
تحية طيبة وبعد،،
أكتبُ إليكم يا خادم الحرمين هذه الرسالة المفتوحة وأنتم على مسافة أيام قصار من رئاسة أعمال القمة العربية التاسعة عشر، التي تحتضنها عاصمة حكمك الرياض .. ولسوف تُطوى هذه الأيام، كما يطوي البرق سقف السماء، لنراكم بعدها برفقة 21 زعيماً عربياً على منصة القمة: تتحدثون وتتشاورون وتصدرون بياناً ختامياً يحمل خلاصة مؤتمركم، ونتمنى أن يصل هذا البيان إلى سقف التوقعات الأعلى للشعوب العربية العاطلة عن الأمل منذ زمن طويل.
أكتب إليكم مولاي الملك وأنا أفتح عيني وأذني على أتساعهما لأراقب وأشاهد وأستمع إلى معزوفتين بدأتا في العزف بإصرار لا مثيل له بعد ركون طويل إلى الصمت، متسائلاً عن جدوى هذا الضجيج في مثل هذا الوقت قبيل فعاليات القمة، وما هي أهدافه، وخططه المبتغاة.
النغمتان هما : احترام الشرعية الدولية، وتحريك عملية السلام ..
وأما العازفتان فهما الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل : يجلسون على منصة واحدة، ويستخدمون نفس الآلات الموسيقية، ويسببون نشازاً لا تخطئه الأذن الموسيقية المدربة، التي تعرف لماذا يغني المغني على ليلاه، أو ليلى الآخرين، في وقت حساس كهذا، لا مجال فيه لإظهار حسن النوايا بعد أن فات ما فات من الوقت.
وهاتان المعزوفتان بدأتا في التصاعد مرة تلو الأخرى بصوت يزداد علواً كلما قصرت المسافة الزمنية إلى القمة العربية المقبلة، وأقترب عدد ساعاتها، وكأن السلام الذي تأخر عن الوصول إلينا منذ نصف قرن، قد يأتينا ويصبح حقيقة واقعة خلال هذه الأيام القليلة التي تعد على أصابع نصف اليد الواحدة.
ليتنا نسمي الأشياء بأسمائها يا خادم الحرمين .. إسرائيل منذ ولادتها القيصرية في جسد الوطن العربي لم تكن سوى مديرة لمكتب واشنطن في الشرق الأوسط : تنفذ المخططات، وتؤدب الخارجين عن القانون الأميركي، وتحاول أن تظهر هذه المنطقة كما تراها عبر نظارة الاستعمار، والاحتلال، والاستيطان، ولا بأس في أن تتحمل للحظات كيف أن مديرتها قد تعطي قليلاً من القليل إلى الدول العربية، لأن لكل وقت فلسفته، وحركته، وسياسته، رغم أنها لاحقاً تأخذ أجر الصمت مضاعفاً عبر منح مالية وصفقات تسلح مدفوعة الثمن مقدماً دون قبضْ.
إن أميركا يا خادم الحرمين لا تعترف بسلام بين العرب والدولة العبرية دون أن يكون سلاما مصنوعاً في إسرائيل، ومفصلاً حسب قياس جسدها الذي لا يعترف بالحمية، بل يؤمن بالتمدد والتوسع والانتشار حتى يغطي المنطقة بأسرها يوماً ما .. هذا هو الحلم الإسرائيلي الذي تسير إليه تل أبيب بكل إصرار وتصميم، دون أن ندرك خطورة الوضع، أو نحاول السيطرة عليه قبل وقوع المحظور.
وها قد رأيت بعينيك، وسمعت بأذنيك ndash; مولاي- كيف رفضت واشنطن التعامل مع حكومة الوحدة الفلسطينية التي ضمت عناصر من فرقاء النضال :حماس وفتح، بعد ساعات ماراثونية مليئة بالقلق، على غير مبعدة من أستار الكعبة، وقريباً منك، عقب أن لبوا دعوتك الصارخة بوجوب إبعاد البنادق عن صدور بعضهم البعض، وصون منجزات الكفاح المشرف .. وكل ذلك لأن هذا الاتفاق لم يأتِ من قاعات البيت الأبيض، بل من نفحات البيت العتيق في مدينة هي مهد الإسلام.
وها هي واشنطن ومن خلفها إسرائيل تعودان إلى التذكير بتوصيات اللجنة الرباعية الدولية، وتسليط سيفها على رؤوسنا، بعد أنا كانتا المتجاهلتين لهذا الاتفاق إلى أن ذوى ومضى أدراج الرياح، وأصبحت صورة quot;الأحذية الواشنطنية التل أبيبيةquot; تُرى طبعتها واضحة على ورق الاتفاق بفضل كثرة القفز عليه، والدوس على بنوده، وتجاوزه إلى ما سواه من الحلقة المفرغة التي يدور فيها الشرق الأوسط حالياً.
وفي هذه الأيام انتفضت فجأة السمراء المصابة بكل عقد النساء العزباوات في العالم، كوندليسا رابس، مذكرةً بأن هناك عملية سلام في المنطقة لا بد من تحريكها، وعلى الضفة ذاتها يظهر المسؤولون الإسرائيليون واحداً إثر الآخر مذكرين بالمبادرة العربية ووجوب اعتمادها في القمة، وإطلاقها مرة أخرى، وربما تعديلها لتخرج حسب المواصفات الإسرائيلية.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد بل يصل سقف الطموحات الإسرائيلية إلى حده الأعلى حين يطالبونك يا سيدي باتخاذ إجراء تقدمي ndash; حسب وصفهم- مشابهاً لما فعله الرئيس أنور السادات، عبر القيام بزيارة إلى تل أبيب وإلقاء خطاب عن المبادرة العربية في الكنيست الإسرائيلي، وربما زيارة لحائط المبكى من باب إظهار حسن النوايا .. وهيهات هيهات أن يفعلها ملك عربي مثلك، تجري في شرايينه دماء هذه الأمة الضاربة في جذور الزمن، وتسكن العروبة في نسغ النسغ من عظامه.
إن كل هذه التحركات الأميركية الإسرائيلية التي نشاهدها على هذا المسرح الكبير المسمى الشرق الأوسط ليست سوى خطط مدروسة لمحاولة إحداث ثقب في جدار التضامن العربي الداعم لحكومة الوحدة الفلسطينية، لأن هذا الاتفاق الحيوي دق ناقوس الخطر في واشنطن وتل أبيب كونه جاء إنجازاً عربياً محضاً لا شركاء فيه من أي رقعة كانت، وفي رأيهم فإن هذا تحرك خطير قد يغري العرب في التقدم خطوة ثانية إلى الأمام.

***

لماذا تحركت رايس بهذه الهمة التي يحسدها عليها العداءون في كل دول العالم لتحريك عملية السلام هذه الأيام؟ .. الإجابة على ذلك هي أنها وجدت العديد من المؤشرات التي تؤكد أن القمة قادرة ndash; لو أرادت- على تحريك ما هو راكد في المنطقة.
وأهم تلك الأسباب التي أثارت رغبة الوزيرة الأميركية السيطرة على القمة عبر معزوفة quot;تحريك عملية السلامquot; هي أنها وجدت على قائمة طلبات الحضور إلى القمة دولا مؤهلة لتصبح في يوم من الأيام قطباً عالميا جديداً يقف حاجزاً أمام الطموحات الإسرائيلية والأميركية في المنطقة الشرق أوسطية من العالم.
وتبرز على قائمة الحضور إلى القمة العربية هذا العام أسماء مثل روسيا وإيران والصين واليابان وغيرها من الدول التي تعقد على القمة آمالاً قد تسهم في تكوين تحالفات جديدة تنصب في صالحنا، ونستطيع بها أن نملك العديد من الأوراق التي تحدث تأثيراً مهماً في الساحة الدولية، بعد أن أمضى العالم العربي عقوداً من التحاف مع أساطين الدجل السياسي من دول الغرب وعلى رأسها أميركا.
يا خادم الحرمين .. إن أميركا هي عاهرة هذا quot;العالم المسطحquot; الذي تسير فيه دباباتها وقطعها الحربية من أقصى العالم إلى أقصاه دون خجل أو حياء .. فهي زوجة إسرائيل في الليل: تدمع عيونها بحرقة أمام حائط المبكى، وترتدي القلنسوة اليهودية، في وقت ترتل فيه نتفاً من التوراة بصوت عذب، يشبه أصوات القيان والغواني في العصور الغابرة.
وفي النهار تأتينا مثل زوجة صالحة تلف حجابها حول تقاطيع وجهها، أو تغطي وجهها بغطاء كامل، وتدأب على تأدية الصلوات الخمس بكل صبر وأناة، آناء الليل وأطراف النهار، وتجهدُ في فعل الأعمال الخيرية في عموم المنطقة، وتريد مساعدة دول الإسلام والحفاظ على دينهم ضد الشيوعية الملحدة، أو أي من الدواعي الأخرى التي تبرع الإدارة الأميركية في إنتاجها.
والحالتان يمكن أن تتغيرا في أي وقت، إذ يمكن أن تتزوجنا أميركا ليلا أو صباحاً حسب أسعار براميل البترول، وأسعار صرف العملات.
واللافت هذه المرة أننا لسنا وحدنا الذي اكتشفنا النفاق الأميركي العلني والدعارة السياسية التي تمارسها واشنطن، بل أنه، ومع شروق شمس كل يوم جديد، ينضم إلى كتلتنا حليف جديد أستبد به الملل من الأسطوانات الأميركية، والمغني الإسرائيلي.
وإذا يممنا شطر أميركا اللاتينية الجارة التي تقبع في فناء أميركا الخلفي فسنجد كيف أن الرفض الشعبي والسياسي عارم، ولا يمكن إخفاءه.
بل أنه حتى لو غرّبنا إلى أوروبا التي طالما اعتبرت الحليف التقليدي لأميركا لوجدنا كيف أن حلفائها يتناقصون واحداً إثر الآخر، ويغادرون الحياة السياسية دون سبب سوى أنهم حشروا في الزمرة الأميركية، مثل ما هو حال صاحبنا توني بلير، الذي حول بلاده من إمبراطورية عريقة ذات تاريخ إلى مجرد تابع لتوجيهات حكام البيت الأبيض طوال عقدين مضيا.
وذات يوم كنت مع مسؤول بريطاني من الأشخاص الفاعلين في مجريات السياسة الخارجية والذين راقبوا تحركاتها وخبروا مساراتها، والذين يبرقون إلى لندن من كافة أرجاء العالم خطط التحرك، وأفكار الدبلوماسية. وكنا في مكان خلاب ساحر لا يفسده سوى الحديث عن أميركا، وقال لي :quot;يجب أن تعلموا انه على المستوى الشعبي فإن أميركا ليست موضع ترحيب أو محبة من قبل البريطانيين، ففي ذهنيتنا دوما عن الشخص الأميركي أنه شخص متغطرس يسير اختيالا بفرد ذراعيه وإبراز عضلات صدره، لكن للسياسة شجونها لدينا، وخلال سنوات قليلة فإن اتجاه البوصلة التحالفية قد يتغيرquot;.
وفي لندن وحدها ndash; يا خادم الحرمين- مئات الألوف من الأشخاص الذين يسيرون في تظاهرات تندد بأميركا وسياساتها، ولو عممنا الصورة لتصبح أكبر، لرأينا الملايين الملايين من المناهضين للسياسة الأميركية في مشارق الأرض ومغاربها، من أوروبا حتى آسيا ndash; مروراً بالقارات جميعها دون استثناء- يقفون ضد واشنطن وسياساتها الاستعمارية في العالم.
إن أميركا لا تتحرك إلا إرضاء لإسرائيل ولنا في كل مشاريعها السابقة عبرة وعظة، فمن quot;حلف الدفاع عن الشرق الأوسطquot;، وquot;مبدأ أيزنهاورquot; وصولاً إلى quot;الشرق الأوسط الجديدquot; الذي تريد واشنطن أن تكون الغلبة فيها لإسرائيل وحدها.
إنها معركة قدر يا سيدي ومولاي، ولا تنتظر الشعوب العربية والإسلامية سواك لخوضها، ولا يعتبون إلا عليك إذا لم تتحقق لهم الطموحات المرتجاة: فأنت حاكم أكبر دولة في شبه الجزيرة العربية، منبت العرق العربي وأيوقنته الصارخة، وأنت حاكم الدولة التي تعتبر مهد الإسلام والتي عبرت من صحاريها قوافل الفتوحات وأساطين الجند لتكوين أكبر دولة إسلامية في التاريخ .. وأنت الوحيد الذي تستطيع تسيير مئات الملايين من المسلمين إن أردت الزحف إلى ثالث الحرمين، وبذلك تضيف المسجد الأقصى إلى عقد لقبك الذي تُسمَّى بها، خادماً للحرمين الشريفين، بعيدا أن ألفاظ الجلالة والتعظيم.
مولاي الملك .. أستحلفك بكل ما هو عزيز ومقدس بالنسبة إليك أن تتقدم إلى هذه المعركة، بكامل زيك العسكري، ودروعك الفضية الصلبة ، ورماحك الصقيلة، لأن المعركة مرهقة بكافة وجوهها، سواء أكان ذلك سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا أو .. عسكريا إذا صدقت نيات أخوتك من الحكام العرب.
إنني يا خادم الحرمين لا أكتب سلسلة أملاءات أو توجيهات .. حاشى وكلا
ولكنها مشاعر وأحاسيس حركتها طبيعة الأحداث في المنطقة، وزادت من أهمية كتابتها، مراقبتي للحركة الغير طبيعية التي ألاحظها الآن على مسرح عالمنا العربي ..

**
وختاماً يا ملك العرب فإنني أود أن أقول إنني لا أصنف نفسي في فئة الخبراء الضليعين في السياسة وشجونها، ولا أعرف فنون الحكم، ولا حركة شطرنج الدبلوماسية الدولية ..
لكن كل ما أعرفه أننا ما زلنا نجلس منذ نصف قرن في مربع واحد من لوح الشطرنج الكبير دون أن يسمح لنا سوى بلعب نقلة واحدة ndash; من باب اللياقة- هي نقلة البداية، بينما أعدائنا يحركون نقلاتهم واحدة تلو الأخرى قريبا من حصوننا وملوكنا ووزراءنا وجنودنا وما إلى ذلك من الجالسين على هذا اللوح المخطط بالأسود والأبيض.

فأتمنى أن تقلب هذه القمة الطاولة في وجه الجميع.