لكل منا فترته الشبابية سواء كانت مليئة بالشمس أو بالحزن، فهي تبقى حاسمة في ذاكرتنا ومليئة بأحداث وأحلامٍ، بعضها استطعنا التعبير عنها عند الكبر وتجاوزناها، وبعضها بقي طي النسيان، لم تسنح الفرصة أن نرويها... ربما لأننا لم نجد الوقت الكافي للعودة إلى تلك السنوات الشبابية البعيدة وندون ما عشناه من تجربة حاسمة، إما لأننا نشعر بالخجل من سردها على العام... أو لأننا لم نجد المكان الإعلامي الحر الذي يسمح لنا ايصال حكمة تجربة بعيدة إلى

اقرأ الحلقة الأولى:
العفيف الأخضر: خالي والهجرة صنعاني
أكبر عدد من شبيبة القراء... ومن هنا أرادت quot;إيلافquot; أن تزيل بعض هذه الأسباب بتخصيص مساحة، يميط اللثام فيها هذا المفكر وذاك الأديب... عن تجربة شخصية كانت حاسمة في شبابه وبقيت في أعماقه لم يتكلم عنها ويود اليوم إيصال حكمتها إلى شباب اليوم عن طريق إيلاف، بمقال... لا يتجاوز أكثر من 2000 كلمة. وقد توجهنا إلى عدد من الشخصيات الكبيرة فكرا وسنا لكي يسرد كل منهم ما بقي طي القلب، ويعتقد أن في بوحه حكمةً لشباب اليوم. وسننشر كل ثلثاء تجربة بعيدة من شباب شخصية معروفة...

الحلقة الثانية:

الكاتبة الصحفية سميحة خريس/ الاردن

الصبية التي بالكاد دخلت سن المراهقة كانت مندفعة وتنتابها أحلام غريبة بخصوص قدرتها على الكتابة، تظن أنها ستحمل للعالم فتحاً مجيداً وانقلاباً غير عادي، ولعل الأهل الذين تعودوا استدعائها أمام الضيوف طالبين منها أن تقرأ نصوصها التي تسميها quot;قصائدquot; أفسدوا عليها الحقيقة بقدر ما دفعوها صوب درب لم ينتهي المسير فيه ولا يجوز له أن ينتهي إلا باغماضة العين الأخيرة. هذا الولع بالكتابة رافقه شغف بالنشر.. كان هناك حلم غريب يسيطر على الفتاة يجعلها تتنظر اليوم الذي تنشر فيه quot;ابداعاتهاquot; على القراء، وإذا كان كتابنا مهتمون كثيراً بالتحدث عن معاناتهم في النشر نظراً لضيق اليد أو وعورة الحياة الاجتماعية، إلا أن العكس حدث معي، مهدت لي طبقتي الاجتماعية دلالاً من نوع خاص، هو في المرئي منه اهتمام ورعاية، وفي الخفي تدمير مخيف، فقد ربطتنا علاقة عائلية بصحفية مشهورة، وكنت في الثالثة عشر عندما طالبتها بثقة مبالغ بها نشر كتاباتي، فابتهجت وأثنت على ما أكتب واستعدت لابراز هذه quot;الدررquot; إلى عالم الصحافة، فدفعت لها بموضوعي الأول، ولم أنم ليلتين بانتظار أن يعمل مصباح علاء الدين على اطلاقي في عالم المبدعين. وجاءت الصحفية تحمل مجلة صغيرة الحجم وفتحتها لأرى للمرة الاولى مقالي على صفحتين متقابلتين واسمي في السطور الاولى، البهجة التي أطارت فؤادي ما لبثت أن صفعت بعنف، عندما قرأت المقال بالكاد تعرفت على ما كتبته، كانت الصحفية قد أعادت تحريره، بالأصح استبقت فقرتين صغيرتين وقامت بتأليف الباقي، وبدا لي أنها سعيدة إذ قدمت خدمة لأصدقائها، وأصاب روحي ذل كبير، بكيت ليلتها كثيراً ولم أنبس بكلمة، ولم أتمكن من اجهاض فرحة أبي وأمي بالنشر، ولكني حرصت أن لا يصل عدد المجلة إلى أي انسان أعرفه، ولم أتحدث عن الفتح المبين الذي يخصني في المدرسة إلى أن كان يوم. استدعتني معلمتي quot; شهناز استيتيه quot; إلى حجرة المعلمات، وكانت تربطني بها علاقة رعاية ومحبة لم تنقطع إلى أن توفاها الله، وهي التي أخذت بيدي إلى امهات الكتب، وناقشتني في أهم الأفكارالأدبية والحياتية بل وكانت قدوتي في الاناقة والانوثة والنبل، كانت تلك المعلمة تشكل مشعلاً أستنير به، وقد تصورت وهي تستدعيني أنها أحضرت لي المزيد من روائع الأدب الكلاسيكي الروسي الذي كانت منهمكة بايصاله إلي تباعاً، ولجت الحجرة مبتهجة ولكن قدمي اصطكتا تحتي وأنا أرى على مكتبها تلك المجلة quot;الفضيحةquot; مفتوحة على quot;مقاليquot; بالتحديد، ومخططة بالقلم الأحمر، زاغ بصري وشحب لوني، ونظرت بقسوة وجدية سائلة: ما هذا ؟؟ ولم أحر جواباً، كنت أقف مثل متهم لا يدعي البراءة، وقد فاجأتني بأنها وضعت خطوطاً تحت كلماتي فقط، لم أعتقد أنها وهي المشرفة على حصة التعبير الانشائي قادرة على تميز اسلوبي إلى هذا الحد، وانهمرت دموعي دون أن يجعلها هذا الموقف تلين أو تبدي رقة، بل ازدادت حزماً وهي تقول: لا أريد أن أشهد موت مبدعة لم تخلق بعد.
مبرراتي وشرحي للوضع لا يغيران عندها شيئاً، لعل تلك الفترة العصيبة وضعت لي حداً قاطعاً ودرساً في أخلاقيات الملكية الفكرية، حتى لو كان ذلك مثل تلك الحال الشائهة، كأن أحداً يضع يدك في جيبه ويقول اسرقني، علمتني كم سيخدش مثل هذا الأمر ايقاع حياتي الابداعية، ويسئ إلى النار التي بالكاد أوقدتها، أبكتني يومها ولكني تعلمت كيفية الوقوف على الدرب بصورة صحيحة، وكلما رجعت تلك المعلمة الاستثنائية في البال أترحم على درسها الأبلغ الذي لم يرد في المنهج ولكنه صار نهجاً.

تنبيه: حقوق الطبع محفوظة.. أي انتهاك لها يدفعنا إلىملاحقة المنتهك قانونيا!