لم تبلغ البلدان المُرفّهة غاية عظمتها، وسمّو مكانها الذي تتبوّأه الآن وتتسنّمه إلا من بوابة العلم، لذلك كانت عنايتها به فوق كلّ عناية، وجهدها فيه مقدّم على كلّ جهد، فلم تكن مناهجها (حشوًا) تستهدف به (الأدمغة الفارغة)، وركامًا (تلقينيًّا) تنتظر من حامله أن (يفرغه) ndash; حسب قدرة حافظته- في أوراق الإجابة عند الاختبار، ليأتي التّقييم والتّقسيم والتّصنيف وفقًا لهذه العمليّة العقيمة، دون أن يعرف (الحافظ) ماذا حفظ، وأيّ استفادة خرج بها ممّا (حُشي) به دماغه، و(أثقلت) به ذاكرته، فلا عجب ndash; إذًا ndash; أن ينسى طلابنا ما حفظوا، ويزهدوا فيما لُقّنوا به، ولن تجد أبلغ دليلٍ على (ضجر) الطّلاب من هذه الكُتب إلا سرعة تخلّصهم منها برميها في (المزابل)، حال (ارتياحهم) من عامهم الدّراسي!
إنّ هذا الوضع يكشف بجلاء خطورة ما نحن فيه، الأمر الذي يستوجب نظرة متأنيّة ودراسة مستفيضة، وفهم لمتطلّبات الحياة العصريّة، حتّى يأتي منهجنا مفصّلاً على قدراتنا العقليّة، ومستوفيًا لتطوّر الحياة، وبغير ذلك سنبقى خارج دائرة الزّمن الحديث، (نجترّ) محفوظات لم تزدنا إلا جهلا!
ولا سبيل إلى بلوغ ذلك إلا إذا استصحبنا في عمليّة المراجعة لمناهجنا وطُرق تدريسنا أمثل النّماذج، وأنصع التّجارب فإنّ ذلك قمين بأن يرينا الصّورة في مرآة (الآخر)، والدّرس في سبورته، فلو قُدّر لك مثلاً أن تدرس في بريطانيا فإنّك ستجد الدّرس مختلفًا عمّا ألفته من درس ودراسة، والحصّة هنا نوع من مهرجان النّشاط الذي لا ينقطع، فلا مجال لشرود الذّهن، ولا محل لغياب الفكر، ولا مكان للابتعاد عن جوِّ الفعل والفاعل والمفعول به ومعه وله فيه!
وجوُّ الفصل تعلوه انسيابيّة البساطة، ومرونة التّداخل، وعفويّة التّفاعل فلا توبيخ ولا زجر ولا تقريع ولا تسفيه، إذ كلّ شيء مقبول في الإجابة، وإذا كان المسلم مأمور بالإيلام حال حفلة الزّواج، ولو بشاة، فالمطلوب من الطَّالب هنا الإجابة (ولو بكلمة)!
وتتعالى البساطة في أجمل صورها حين يكتب المدرّس كلمة على السُّبورة، ويجلس يتذكّر طريقة (تهجئتها) الصّحيحة!! ولا يستنكف حينها أن يسأل أحد طلابه عن صحّة حروفها، وصواب تهجئتها، وسؤاله هنا سؤال الجاهل، وليس سؤال الممتحن والمختبر!
وتستطيع القول أنّ المدرس، أو (المعلِّم هنا) ينطبق عليه قول شاعر الأمراء أحمد شوقي، وهو لم يدرّس في حياته ولو جزءًا من حصّة:
قُمْ لِلمُعلِّمِ، وفِّهِ التَّبْجِيَلا
كَادَ المُعلِّمُ أنْ يَكُونَ رَسُوَلا
أَرَأيْتَ أعْظَمَ أوْ أجَلَّ مِنْ الّذِي
يَسْقِي ويَزْرَعُ أنْفُسًا وعُقُوَلاً!
أمّا المُعلِّم العربي أو (المحلي) - وكاتب السُّطور قد كان واحدًا منهم - فينطبق عليه قول شاعرهم الكبير إبراهيم طوقان، وقد كان مُدرِّسًا:
شَوْقِي يَقُول - ومَا دَرَى بِمُصِيْبَتِي-
(قُمْ لِلمُعلِّمِ، وفِّهِ التَّبْجِيَلا)!
يَا مَنْ يُرِيدُ الانْتِحَارَ.. وَجَدْتَهُ
إنَّ المُعَلِّمَ لا يَعِيْشُ طَوِيلا!
كلّ شيء هنا مختلف انطلاقًا من النّوعيّة والكميّة والذّهنيّة والفترة الزّمنيّة والتّداخلات الاجتماعيّة، يا الله حتّى في العلم هناك فرق بين القارات والمدائن والأماكن!
أقول قولي هذا مستشعرًا هذا الفارق الكبير بيننا وبينهم، فارق يكاد يصيبني بالإحباط، لو لا بقيّة من أمل ندّخرها في القلب، رجاء أن يدرك النّاس والمهتمّون ما نحن فيه، وما وصلنا إليه بسبب مناهجنا، والله من وراء القصد!

[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية