يحكمك المكان بما فيه، ويفرض عليك النّظر في داخلك ممّا ورثته وعايشته قبل النّزوح إليه، فإذا أنت في خاتمة المطاف إمّا منسجم معه ومتناغم، بما تتيحه لك نفسك من نزوع نحو المعرفة، وجنوح إلى الاكتشاف،أو متصادم ومختلف كلّ الاختلاف عنه، تقودك في ذلك نفس منغلقة على ذاتها، أحاديّة الرّؤية والتّقييم!
سأفترض أنّك مثلي ndash; أيّها القارئ الكريم - من الجانحين نحو التّأقلم، الرّاغبين في معرفة الآخرين دون رأي مسبّق، فمثلك عندما ينتقل من بقعة إلى أخرى، من بقع أرض الله الشّاسعة، تأخذك الدّهشة وتنقلك إلى حيث لم تكن معتادًا عليه. إنّك في حيرة من شؤونك التي تآلفت معها، وكبرت عليها، فالقوم هنا يفرضون عليك نظامًا يليق بهم وبك.. بعيداً عن محاولة المقارنة، أو بعث الموازنة بين هذا النّظام أو ذاك، أو على الأقل أيّهما أفضل.. إذ لكلّ نظام مصاعبه ومكاسبه.. والله جلّ وعزّ خلق البشر وجعل لكلٍّ منهم شرعة ومنهاجا!
فإذا حالفك (الحظّ) وعشت في الغرب، فلن تجد نفسك إلّا من خلال التّداخل معهم، والانسجام مع أنماطهم، والرّضوخ لمتناولاتهم، فالحكمة منذ الأزل تقول (في روما تصرّف كالرّومان)، ومن قبل ذلك يقول العرب ndash; وما أكثر ما قالوا-: (دارِهم، ما دمت في دارهم، وأرضِهم مادمت في أرضهم).
الحكمة الأولى كلمة إنجليزيّة والثّانية عربيّة، كلّها تشير إلى معنىً واحد، وإنّ كانت العربيّة تنبعث منها (رائحة خاصّة)، إذ المدارة ومحاولة إرضاء الآخرين أمر يقترب من الصُّعوبة، ومن المستحيل تحقيقه، إضافة إلى أنّ المجاملة هي أقرب إلى الكذب منها إلى محاولة الانسجام، بينما الحكمة الإنجليزيّة لا تطلب منك أكثر من محاولة التّقليد والتّقمّص!
في بلد مثل بريطانيا، التي منها يتولّد الحبر الأصفر، تستوقفك الأسئلة تلو الأسئلة!
وتأخذك مشاهد الرّؤية نحو صور لم تألفها، ومن بين ذلك على سبيل المثال والإيضاح وبيان الفروق: لماذا تراهم يحرصون هنا على الكلب وتربيته، والعناية به، وإعداد العيادات الصّحيّة والمواد الغذائيّة له، ويوفّرون صوالين الحلاقة الخاصّة به؟!
إنّه سؤال يمكن أن يجاب عليه بالقول: إنّهم قوم ضلَّ سعيهم!
أو يمكن القول بأنّهم أناس انتهى منهم الشّيطان، إذ تبقى لهم الدّنيا ولنا الآخرة!
أو يمكن القول بأنّهم قوم قليلو الطّهارة، لذا لا غرابة في أنّهم يعيشون مع الحيوانات!
هذه إجابات من يأخذون اللّقمة من فم القدر، إجابات العاجزين والفارغين والسُذج البسيطين والمُبسّطين!
إنّها إجابات تقول ولا تقول، تعطي ولا تعطي.. تقول كلّ شيء، ولا تقول شيئًا محدّدًا! ولو فكرنا بطريقة مختلفة لوجدنا أنّ قدماء العرب في صحرائهم كانوا يعتبرون الكلب (الحارس الأمين)، والصيّاد الماهر، والوفي النّادر، والأمين الباهر، وأحيانًا العشيق السّاهر!
إنّ العرب بفطرتهم - الأولى ndash; أدركوا أهميّة الكلب، وشعروا بقيمته، وأحسُّوا بالمهام الخارقة التي يقوم بها، وهذه فرصة لعشّاق نسف تجارب الغرب.. أولئك القوم الذين يحيلون أيّ إبداع هنا إلى أسبقيّة العرب إليه.. لماذا لا يقولون إنّ العرب سبقوا الغرب بألف وأربعمائة سنة للعناية بالكلب واتّخاذه خليلاً، ألم يقل الشافعي:
لَيْتَ الكلابَ لنَا كانتْ مُجَاورةً
وليْتَنَا لا نَرَى ممّا نَرَى أحَدَا
ومن بعده قال الفرنسي: عندما عاشرت النّاس ازداد حبّي لكلبي!
إذًا أين تقف في معادلة التّقييم والوضع هكذا؟!
[email protected]
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية
التعليقات