لقد قطع العلم حتى اليوم شوطاً بعيداً في الكشف والاختراع والابتكار، وأثبت جدارته ومصداقيته في شتى فروع المعرفة، واجتاز بنجاح حقولاً واسعة ظلت إلى وقت قريب غارقة في المجهول، إلا أن تاريخ العلم بالرغم من كل هذه الإنجازات العظيمة ظل مشوباً ببعض المفارقات الغريبة، ولعل من أشد هذه المفارقات غرابة أن ( العلم ) الذي أعاننا على تحقيق ما حققناه حتى الآن من إنجازات علمية عظيمة هو نفسه الذي كان ـ ومازال ـ يحول بيننا وبين السعادة المنشودة، فقد ارتكب العلم عبر تاريخه الطويل أخطاء فادحة، وأثمرت يداه في مناسبات عدة المُرَّ والعلقم، وها هي ذي ترسانات أسلحة التدمير الشامل الحيوية والكيميائية والنووية تغص بها مخازن الدول الكبرى، وتشهد على ما نقول!
ونحن هنا بطبيعة الحال لا ندين ( العلم ) نفسه، فالعلم في حقيقته لا يعدو أن يكون حقائق مجردة ( قوانين، معادلات، إحصائيات.. ) إنه مفهوم محايد تماماً لا يملك من أمره شيئاً، فهو لا يقدر أن يحسن أو يسيء، وأما الذين يمكنهم أن يحسنوا أو يسيئوا فهم أولئك المسؤولون عن تسخير الإنجازات العلمية في الخير أو في الشر، وهم الذين كانوا على مدار التاريخ وراء انحراف العلم عن أهدافه الأخلاقية الخيرة.
إن العلم الذي أعطانا منجزات عظيمة ( الكهرباء، المذياع، الهاتف، الطائرة، التلفاز، المركبات الفضائية، الكومبيوتر، المضادات الحيوية، أطفال الأنابيب، الهندسة الوراثية.. ) لم يكن في يوم من الأيام علماً سيئاً، بل كان إنجازاً رائعاً أتاح لنا الكثير من الراحة والمتعة والصحة والأمان، وإنما تحول العلم إلى شر بفعل الإنسان، حامل الأمانة ((.. إنه كان ظلوماً جهولاً ))، فالإنسان قبل أن يوصله علمه لاختراع السيف قتل أخاه بالحجر، وقبل أن يصوِّب إليه البندقية صوَّب إليه الرمح، وقبل أن يفجِّر به الذَّرة فجَّر به الديناميت، وقبل أن يرميه بالصَّاروخ رماه بالمنجنيق!
فما الذي يعنيه هذا ؟ إنه يعني أن الإنسان يظل هو محرك الأحداث، وهو الذي يصنع تاريخه بنفسه، وما تاريخ الجنس البشري إلا المحصلة النهائية لكسب كل فرد من أفراده، وهذا ما عبرت عنه الآية الكريمة: (( وأنْ ليسَ للإنسانِ إلا ما سَعى 0 وأنَّ سَعْيَهُ سوفَ يُرَى )) سورة النجم 39 و40، أو كما يقول المثل الدارج ( ما تضعه في القِدْر يخرج لك بالملعقة ) فالبدايات هي التي تحدد النهايات، والإنسان هو وحده الذي يتحمل مسؤولية فعله والنتائج التي تترتب على هذا الفعل، ومن ثم فإن شيئاً من أحواله لن يتغير ما لم يغيِّر ما بنفسه، ويعدِّل طريقة تفكيره وسلوكه، كما قال تعالى: (( إنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بقَوْمٍ حتَّى يُغَيِّروا ما بأنفُسهِم )) سورة الرعد11.
والآن دعونا نقلب الصورة لنرى الجانب الآخر للعلاقة ما بين العلم والأخلاق، وهي أشد مفارقة مما قدمناه، فالحروب ـ التي تعد من أكبر الحماقات البشرية وأبعدها عن الأخلاق النبيلة ـ كانت ومازالت وراء التقدم العلمي الذي أدخلنا بجدارة عصر الذرة، وأوصلنا إلى سطح القمر، وراح يعدنا بسكنى الكواكب البعيدة!
وقد بدأت هذه القصة الطريفة قبيل منتصف القرن العشرين، خلال سنوات الحرب العالمية الثانية ( 1939 ـ 1945 ) التي خشي فيها ( الحلفاء ) من امتداد السيطرة النازية والفاشية على العالم، فجمعت الولايات المتحدة الأمريكية في عهد رئيسها ( فرانكلين روزفلت ) نخبة من علمائها مع عدد من العلماء الألمان الذين فروا إليها من بطش الزعيم الألماني ( هتلر )، وكلفتهم بتطوير التفاعل الذري في المشروع السري للغاية الذي أطلقت عليه اسم ( مشروع مانهاتن )، وقد استطاع العلماء بقيادة العالم ( أوبنهايمر ) في فترة وجيزة من الزمن أن يحولوا معادلات الطاقة والمادة التي وضعها العالم ( آينشتاين ) إلى حقيقة واقعة، وأجروا أول تجربة لتفجير الذرة في صحراء نيفادا، في الساعة 5:30 من فجر 16/7/1945، وكانت القنبلة من عيار ( 12.5 كيلوطن ).
ولم يلبثوا أن حولوا هذا الكشف العلمي الكبير إلى قنبلة رهيبة ألقوها فوق مدينة هيروشيما اليابانية في الثامن من شهر آب ( أغسطس ) من العام نفسه أودت على الفور بحياة ( 140.000 نفس ) وبعدها بثلاثة أيام ألقوا القنبلة الثانية فوق مدينة ناغازاكي أودت بحياة ( 70.000 نفس ) ودمرت المدينتان تدميراً شاملاً عن بكرة أبيهما!

وكما دفعت الحرب العالمية الثانية للتعرف على الطاقة الذرية، فكذلك كان التهديد بنشوب حرب عالمية ثالثة وراء التقدم العلمي في ميدان الفضاء الذي ازدهر في فترة الحرب الباردة ( 1945 ـ 1990 )، تلك الحرب التي تأزمت بين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة والمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي، فقد أصيب أرباب السياسة بحمى التفوق العسكري، وراحوا يتسابقون في ميدان الفضاء، من أجل امتلاك السلاح الأسرع والأعلى والأبعد مدى، وقد أسفر هذا التسابق المحموم عن زراعة الفضاء الخارجي حول الأرض برؤوس نووية قادرة على تدمير الأرض بمن فيها في دقائق معدودات، وعلى الجانب الآخر أدى هذا التسابق الفضائي إلى تطوير الصواريخ والأقمار الصناعية والمركبات الفضائية تطوراً مذهلاً فاق كل التوقعات، حتى أوصل الإنسان إلى سطح القمر ( عام 1969 )!
ويكشف لنا هذا التقدم العلمي في ميادين العلم المختلفة عن حقيقة مؤسفة حقاً، وهي أن الإنسان يملك من الطاقات العقلية والمادية ما يستطيع به تحقيق الكثير من الآمال الخيرة التي ظلت البشرية طوال تاريخها الماضي تتوق إليها، غير أن الإنسان ( لغاية في نفوس بعضهم! ) لا يستخدم هذه الطاقات فيما يخدم حياته، بل يستخدمها في الغالب بالاتجاه المضاد، وعلى سبيل المثال نذكر أن علاج مشكلة صحية كالاكتئاب النفسي ( Depression ) الذي يؤدي إلى خراب البيوت، ويدفع آلاف المرضى النفسيين للانتحار سنوياً، ليس أصعب ولا أشد تعقيداً ولا أكثر تكلفة من إنزال إنسان فوق سطح القمر، أو إرسال مركبة فضائية إلى أطراف منظومتنا الشمسية، وهذا يعني إن الإنسان لو أراد فإنه قادر بإذن الله تعالى على تحقيق الكثير من الإنجازات الخيرة، ولاسيما في ميادين العلم التي لم تعطَ حتى الآن حقَّها من العناية والاهتمام على الرغم من ارتباطها الوثيق بحياة الإنسان.
لقد حقق الإنسان في حقول العلم المختلفة كثيراً من الأحلام الكبيرة التي تجاوزت حدود الخيال، وكان بعيد النظر إلى الدرجة التي مكنته من تخطي كل الحواجز التي وقف أجداده عاجزين أمامها، أما في شؤونه الاجتماعية فقد ظل يحمل في أعماقه أسوأ ما ورثه عن أجداده من أحقاد، وكان قصير النظر إلى درجة أنه تصرف بعد عشرات القرون من العلم والمعرفة كما تصرف ابن آدم الأول الذي عرف كيف يقتل أخاه، ولكنه لم يعرف كيف يواري سوأته ويدفنه!
ونعتقد أن تصحيح هذا الخصام النكد ما بين العلم والأخلاق لن يتم إلا باتخاذ العلماء أنفسهم مواقف إيجابية، يحددون بموجبها أولويات الكشوف التي تحتاجها البشرية فعلاً، أما المواقف السلبية التي غالباً ما يتخذها العلماء ـ حتى من الاكتشافات التي تتحقق على أيديهم وتستنزف طاقاتهم ـ فإنها قطعاً ليست في صالح التقدم العلمي، ولا في صالح البشرية، ولا في صالح العلماء أنفسهم، لأنها تتيح للتجار والساسة ( أو الساسة التجار! ) أن يستغلوا الكشوف العلمية في أحطِّ الأغراض وأبعدها عن مصالح البلاد والعباد، كما وظفت بالأمس علوم الذرة في إفناء مئات الآلاف من الأبرياء، وكما توظف اليوم علوم الفضاء في أغراض التجسس، ونشر الدعارة، وزراعة الرؤوس النووية فوق رؤوسنا، ما جعلنا أشبه بركاب طائرة مخطوفة مهددة بالانفجار أو بالتفجير في لحظة خاطفة من لحظات الطيش البشري الذي لا يعرف الحدود!
لقد كنا ننتظر من الإنجازات العلمية العظيمة التي حققناها حتى الآن أن تصل بنا إلى برِّ الأمان، وأن تحقق لنا بعض الأحلام الكبيرة التي ظلت تداعب أجفاننا لدهور طويلة، إلا أن ( حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر ) كما يقول المثل الدارج، والفضل في هذه الإشكالية يعود في اعتقادنا بالدرجة الأولى إلى أصحاب القرار الذين ظلوا يوظفون العلم لخدمة الأهداف السياسية، والعسكرية منها بخاصة، بينما بقيت مشاريع التنمية في الأدراج!

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية