إن شعبًا مستعبَدًا وخانعًا، سواء استعبده الخوفُ أم قنع بهزيمته، هو الحليف الأمثل للحكم الذي يضطهده. فالرأي العام يتعلم الخضوع، وعندئذٍ يترسخ لديه الشعور بالقَدَرية. عند ذاك لا يكون التمرد معارضةً للنظام فحسب، بل احتجاج على صمت العامة السلبي. فيال أولفييه (1)

لعل ما يميز مجتمعات منطقتنا العربية برمتها من الخليج الى المحيط هو تراكم المظالم وتجذرها العميق في بنية تركيبة المجتمع، سواء كانت تلك المظالم سببها أنظمة داخلية توتاليتارية شمولية ام كانت مظالم خارجية سببها المحتل العسكري بقوة الحديد والنار، الأمر الذي دفع تلك الشعوب نحواليأس و تعليق الأمر على امر قدري غيبي ومشيئة ميتاميزيقية.
إن تجذُّر المظالم عميقًا في مجتمعاتنا، يعود بالدرجة الأولى الى قبول اعضاء المجتمع وتواطؤهم بل وقبولهم وتعاونهم مع مضطهديهم وقامعيهم.

ان عملية تقديم رؤية فكرية تحررية، تتمحور حول وقف الهتاف باسم quot;الزعيمquot; بالدرجة الأولى، ووقف عملية تمسيح الجوخ تجاه أي محتل تحت اي مسمى او ذريعة، ومن ثم مواجهة التعاون الذي يمارسه معظم اعضاء المجتمع المتعاونيين مع الظلم القائم، وهو أمر يحتاج الى تصور فكري واستراتيجية عملية.
وإذا كان من الأجدى اعتماد استراتيجية غير عنفية و واضحة فهي تنبني على رؤية فكرية تؤمن بقيم العدالة كما أنها ترتكز على كسر التعاون مع الظلم ومصادره ومكافحة شتى أنواعه من خلال ممارسة ضغط اجتماعي وعملي، يُرغم المسؤولين وصناع القرار واصحاب النفوذ على الاذعان والرضوخ لمطالب الناس، وذلك من خلال الرفض الحاسم لأية مشاركة في اي وظيفة تؤدي ممارستها الى الحفاظ على موقع الخصم، كما سيرغم اي محتل على الرحيل عندما يعدم امكانية ايجاد من يتعاون معه وييسر له مهامه.

لقد أصر بعض النقاد على إظهار أعمال غاندي وكأنها دعوة للرجوع إلى العقل والضمير وان الهدف منها احياء ضمائر الناس، واذا كان هذا الأمر من فلسفة الرجل، إلا ان الهدف المباشر من حملاته كان القضاء على اسس وبنى التعاون القائم بين الشعب الهندي والمحتل البريطاني وتقصير امد الاحتلال ودفع المحتل الى الرحيل لذلك فإنه يقول:
إذا كانت الحكومة تعمل بشكل سيئ نكون مسؤولين عن سيئاتها عبر تعاوننا معها في جعل هذا الشر ممكنًا. لذا يجب عليَّ سحبُ دعمي لهذه الحكومة، ليس بدافع الانتقام، بل لكي لا أشارك في تحمُّل مسؤولية الشرِّ الذي تسبِّبه (2)

إن عملية تقديم رؤية عن العدالة، تدفعنا الى تميزها عن القانون إذ ليس القانون هو الذي يُملي ما هو عادل، بل إن العدالة هي التي تفرض القانون. من هنا، حين يكون هناك صراع بين القانون والعدالة، علينا أن نختار العدالة وأن نعصي القوانين، لأن ما يجب أن يُلهِم الإنسانَ في سلوكه ليس ما هو شرعي بل ما هو quot;مشروعquot;.
وحول هذا السياق عدَّل غاندي في كانون الأول سنة 1920 النص الذي يحدد أساليب عمل حزب المؤتمر الهندي حين كانت قوانين حزب المؤتمر تؤكد في وضوح أن عليه متابعة أهدافه quot;عبر وسائل قانونيةquot;، أي شرعية، استطاع غاندي أن يجعل حزب المؤتمر يصوت لصالح قرار يقضي بأن يعمل الحزب quot;وفق الوسائل المشروعة والسلمية كلهاquot;(3)
وهنا نضيف قائلين إن كل مجتمع يُفترَض فيه أن يستعمل الوسائل التي تسمح له بحماية نفسه من الأفراد والجماعات الذين يجتهدون لزرع الفوضى ويهددون بذلك تماسك المجتمع واستقراره.
إن على كلِّ مجتمع يتطلع إلى ضمان الحرية والعدالة المثلى لأفراده أن يطالب بحق، لا بل بواجب التنظيم، حتى تبقى هذه الحرية وهذه العدالة في مأمن من أذى أعدائها.
إن هدف العصيان المدني لا يقوم على إلغاء القوانين، بل على تطويرها ndash; إعادة إصلاحها ndash; بحيث تستطيع معها أن تكون منسجمةً أكثر مع متطلبات العدالة والحرية. يؤكد غاندي:
العصيان المدني هو التأكيد على حقٍّ يجب أن يعطيه القانونُ لكنه يرفض إعطاءه (4).
عندما كان مارتن لوثر كنغ يخطط لتعطيل العمل العادي لمؤسسات المجتمع الأمريكي، من خلال حملات العصيان المدني، أوضح قائلاً:
هذه المقاطعة يجب ألا تكون سرِّية أو في الخفاء. ليس ضروريًّا أن نُلبِسَها ثوبَ حرب المغاوير الرومانسي، بل يجب أن تكون علنيةً وأن تقوم بها جماهير كثيرة، دون أيِّ لجوء إلى العنف. وإذا كانت السلطات تريد إفشالها وإغراق السجون بنا فإن معناها بذلك يصبح أوضح(5).

من المؤكد أن الأيام التي أمضاها كل من غاندي وكنغ وتشافيز في السجن كانت مفيدة لفعالية تحرُّكاتهم. لكن يبدو أن هناك ظروفًا يفضَّل إبانها الإفلات من العقاب من أجل زيادة حجم التحدي الذي يوجَّه إلى السلطات ومن أجل إظهار الطابع اللاشرعي للعقاب المعلَن عنه. كما يمكن أيضًا التخطيط للدخول في مرحلة من التخفِّي المؤقت، ثم اختيار تاريخ الاعتقال بأنفسنا، جاعلين منه مناسبةً للظهور بمظهر يكاد أن يكون احتفاليًّا. المهم هو أن نسعى دومًا للاحتفاظ بزمام المبادرة.
حين يصير القمع عنيفًا جدًّا، يصبح من الضروري أن يتهرب المسئولون والمناضلون من العقوبات المفروضة عليهم برفضهم الخضوعَ لسلطان الأمر الواقع، وذلك من أجل تماسك حركة المقاومة والإبقاء على زخمها واستمرارها.

إن عاصي القانون يعرف جيدًا أن المجتمع لن يعترف له بهذا الحق. لكن ما يتوخاه من عصيانه هو إبراز الأسباب التي تجعل القانون سيئًا والتي توجِب، بالتالي، تغييرَه. ثم إن هؤلاء الذين تقوم وظيفتُهم على فرض احترام القانون، سواء انتموا إلى السلطة التنفيذية أم إلى السلطة التشريعية، يفترَض فيهم ألا يحتموا وراء الحجة القائلة بأن طاعة القانون واجبة لأن القانون هو القانون. إنه لأمر سخيف قولهم إنهم لا يريدون معرفة الأسباب التي أدتْ إلى عمل عصياني، لأنهم لو فهموا وظيفتهم كما يجب لعرفوا عندئذٍ أن من واجبهم ليس فقط تطبيق القانون، بل القبول أيضًا بأن يكون القانونُ قابلاً للنقاش.
ويكون القانون عادلاً، وبالتالي مبرَّرًا، بمقدار ما يهدف حقًّا للدفاع عن مصالح المعدَمين والمستضعَفين ضد مطامع الأغنياء والأقوياء. ولكن الأغنياء والأقوياء هم الذين يسنُّون الشرائع، وهم أيضًا الذين يحرِّفون القانونَ ويستخدمونه لحماية امتيازاتهم من مطالب الفقراء. في هذه الحالة بالذات لا يعود القانون جديرًا بالطاعة، حتى لو أقرَّه مجلسٌ منتخَب عن طريق التصويت العام. بالطبع، لا يجوز لنا احتقارُ القانون لأن سنَّه يشكِّل تقدمًا مهمًّا في تاريخ المجتمعات. إن كل تغيير اجتماعي جذريٍّ تقوم به حملةٌ لاعنفية يجب أن يصادَق عليه من خلال التصويت العام الذي يبقى وسيلةَ التعبير الفضلى عن رأي الأكثرية. ولكن تبقى لهذا التصويت حدودُه ونقائصُه.

على صعيد آخر، إذا كان الاقتراع العام يسمح للغالبية بأن تختار الحكومة التي تريدها، فإنه لا يعطيها حقَّ المشاركة في قرارات هذه الحكومة. فالديموقراطيات هي، قبل كلِّ شيء، ديموقراطيات تمثيلية وليست ديموقراطيات مشارَكة. لذا ترانا نبالغ دومًا في تصوير الدور الحقيقي الذي يلعبه المواطن حين يدلي بصوته في صندوق الاقتراع. صحيح أن المواطن يسمح لممثليه بالوصول إلى السلطة، ولكنه لا يملك، في المقابل، الوسائل الحقيقية لمراقبة قراراتهم وضبطها. فالأمر كما لو أنه يوقِّع شيكًا على بياض وأنه سيُرغَم على تسديد الحساب، طوعًا أو كُرهًا. ذلك أن المواطن، من خلال التصويت، لا يمارس سلطته، بل يوكلها. وقد أكد ميشيل دوبريه بعبارات واضحة بأن هناك مفهومًا معينًا للديموقراطية يقوم بالضبط على عدم مشاركة المواطنين وتخلِّيهم عن تحمُّل مسؤولياتهم:
إن ميزة الفرد هي أن يعيش قبل كلِّ شيء حياته اليومية: فهمومه وهموم عائلته تستغرقه. إن عدد المواطنين الذين يتمكنون من متابعة الاهتمامات العامة ويرغبون في المشاركة فيها محدود ndash; وهذا شيء جيد؛ إذ إن المدينة أو الأمَّة التي يناقش فيها المواطنون أمورَهم السياسية كلَّ يوم تغدو قريبة من الدمار. الديموقراطية ليست في إفساح المجال باستمرار أمام الأهواء والمشاعر الشعبية لمناقشة مسائل الدولة. المواطن العادي الديموقراطي حقًّا يحكم في صمت على نظام بلاده. وحين يستشار في تواريخ محددة من أجل انتخاب نائب، مثلاً، يستطيع عند ذاك التعبير عن موافقته أو عدمها. وبعدئذٍ يعود عودة سليمة وعادية إلى اهتماماته الشخصية(6) .

إنه من حقنا كأفراد وشعوب خلقنا الله أحرار أن نحلم ونسأل أنفسنا على دوام: ترى متى نرى اليوم الذي سنحقق فيه ديموقراطية حقة نابعة عن أفراد أحرار لا يقمهم قانون جائر ولا يستعبدهم محتل؟؟؟؟

كاتبة لبنانية
[email protected]
Marwa_kreidieh.maktoobblog.com

هوامش:

1- أولفييه فيال، quot;كلنا منشقونquot;، مجلة خيارات لاعنفية، العدد 34، تموز 1979، ص 34.
2- س. پانتر بريك في: غاندي في مواجهة مكيافللي، ص 125.
3- استشهد بهذا القول س. پانتر بريك في: غاندي في مواجهة مكيافيللي، ص 132-133.
4- استشهد بهذا القول س. پانتر بريك في: غاندي في مواجهة مكيافيللي، ص 222.
5- م.ل. كنغ، الثورة الوحيدة، ص 34.
6- ميشيل دوبريه، quot;هؤلاء الأمراء الذين يحكمونناquot;، عن المقال المنشور في دفاتر المصالحة، أيار 1971

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية