سأخصّ بالذّ كر ndash; في مقالي هذا ndash; الشّيخ محمّد الطّاهر ابن عاشور العلاّمة الإمام غزير الإنتاج العلميّ وافر الآثار في مختلف فنون المعرفة، الذي بثّ العلم في صدور الرجال طيلة مسيرته المعرفية، ذاك العلم الذي تعددت لقاءاته وتنوعت محاضراته. ونظرا لاتساع معارفه التي يعجز مقال واحد عن الإ لمام بها فإنّي سأقتصر على جوانب لامعة من اجتهادات الشيخ نال بها - حقاّ - قصب السبق والتجديد في حقل الاجتهاد وفي حقل الثقافة الإسلامية ممّا يؤكّد إمكانيّة التّجديد في الفكر الدّيني في كل مصر وفي كل عصر متى توفّرت العزائم الصّادقة والعقول المتفتحة.
قبل ذكر نماذج من اجتهاداتة رأيت أن أقف عند مصطلح الاجتهاد:
الاجتهاد في اللّغة: افتعال من الجهد وهو المشقة وهو أيضا الطاقة فلزم من ذلك أن يختص هذا الاسم بما فيه من مشقّة، لتخرج عنه الأمور الضّروريّة التي تدرك ضرورة من الشّرع، فلا مشقّة في تحصيلهاrsquo; ولاشكّ أنّ ذلك من الأحكام الشّرعية.
في الاصطلاح: الاجتهاد بذل الوسع في نيل حكم شرعيّ علميّ بطريق الاستنباط ( الزّركشي بدر الدين بن بهادر بن عبد الله الشافعي، البحر المحيط في أصول الفقه، 6/ 197 الطبعة الثانية، دار الصفوة للطباعة والنشر والتوزيع بالغردقة،القاهرة ).
الاجتهاد في الشريعة هو استنفاد الطاقة في طلب حكم النّازلة حيث يوجد ذلك الحكم ما لا خلاف فيه بين أحد من أهل العلم بالديانة فيه. (ابن حزم الأندلسي الظاهري، الإحكام في أصول الأحكام م 2،ج 2،ص 587،الطبعة الثانية، دار الجيل بيروت،1407ه/1978م ). ومن هنا لا يمكن أن نطلق على الفتاوى التقليدية اسم الاجتهاد لأنها خالية عن كدّ الذّهن واستنباط الأحكام والتّجديد وهي شروط أساسية في الاجتهاد والمجتهد فمن هو المجتهد وما هي شروطه ليتبوأ سدة الاجتهاد؟
المجتهد:
يقول الشاطبيّ:quot; إنّما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتّصف بوصفين أحدهما فهم مقاصد الشريعة على كمالها والثاني التّمكّن من الاستنباط بناء على فهمهquot;. ( الموافقات في أصول الشّريعة، 4/106).
بناء عليه فالمجتهد من له quot; ملكة يقتدر بها على استنتاج الأحكام من مآخذها، وإنّما يتمكن من ذلك بشروط:
أوّلها: إشرافه على نصوص الكتاب والسنّة.
ثانيها: معرفة ما يحتاج إليه من السّنن المتعلقة بالأحكام.
ثالثها: الإجماع.
رابعها: القياس.
خامسها: كيفيّة النّظر.
سادسها: أن يكون عارفا بلسان العرب وموضوع خطابهم.
سابعها: معرفة الناسخ والمنسوخ.
ثامنها: معرفة حال الرواة في القوة والضعف. ( لمن أراد التوسع ينظر البحر المحيط، 6/ 199-203).
هل يعدّ الشيخ محمد الطاهر ابن عاشورمجتهدا من الذين توفّرت فيهم هذه الشّروط؟ ه جدير بالاقتداء به في جرأته وفي تطويره للفكر الإسلامي.؟
تهيأت للشّيخ بيئة علميّة ndash; منذ نعومة أظفاره ndash; مكّنته من نشأة علميّة في بيت جدّه للأمّ الوزير محمّد العزيز بوعتور أين بدأت رحلته العلميّة بتعلّم الكتابة والقراءة وحفظ القرآن في المنزل وفق عادة أبناء الأسر الثّرية في تونس في ذلك الزمن فجدّه للأب محمد الطاهر ابن عاشور من علماء تونس الكبار وأحد فقهاء المالكية وقضاتها في القرن 13ه/19م. ( أنظرالنيفر محمد،عنوان الأريب عمّا نشأ بالمملكة التونسية من عالم وأديب، /178، الطبعة 2التونسية، 1356 ).
يسرت له هذه البيئة مواصلة الدراسة في جامع الزيتونة الأعظم فنهل من معينه الصافي على أيدي شيوخ أجلاّء إلى أن تحصل على شهادة التطويع.
اتصل بعلماء عصره من الشرق والغرب فاكتسب quot; شمولا في الثقافة دفعه لمزيد البحث والتعمق للقدرة على النّقاش والمحاورة والرّد وخاصة في مجال مقارنة الأديان والفلسفة والتاريخquot;. ( العتيق الصحبي، التفسير والمقاصد عند الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، ص 14، الطبعة الأولى، السنابل للثقافة والعلوم،تونس،1410ه/1989م ).
تقلّب في وظائف مهمّة وكبيرة منها التّدريس والعمادة ونائبا عن الشيخ باش مفتي المالكيّة وخطّة باش مفتي وشيخ الإسلام المالكي و مشيخة الجامع الأعظم.
هو ndash;أيضا- من أعلام الزيتونة الذين أصلحوا التّعليم الزّيتوني فأدخل تغييرات جوهريّة أحدثت ضجّة كبيرة. وهو من أنشأ الجمعية الخلدونيّة وهو من أسّس نهضة المدرسة الصّادقية.
عرف عنه اعتداده بنفسه وبقوة شخصيته،يبدي رأيه بكلّ جرأة ويشارك في حلّ مشاكل عصره والنّظر في نوازل زمنه. وعرف ndash; كذلك- بنقده للفكر الإسلامي ودعوته للتجديد ملتزما في اجتهاده بما قرأه في الفروق للقرافيّquot; أنّ أصول الشريعة نوعان:
أحدها: ما سميّ أصول الفقه وهو قواعد الأحكام النّاشئة عن الألفاظ العربيّة خاصّة، وما يعرض لتلك الألفاظ من النّسخ والتّرجيح والأمر للوجوب والنهي للتحريم.
وثانيها:
قواعد كلية فقهية كثيرة العدد عظيمة الفائدة مشتملة على أسرار وحكمة وهي قواعد بقدر الإحاطة بعظم قدر الفقيهquot;
بالفعل quot; فإنّ الشيخ ابن عاشور... قد يرى نقصا في الشّرح أو التّفسير والفهم، وقد لا يجد اليسر في التطبيق مع الحسن والجمال فيعمد إلى الحلّ ويسعى إلى الفهم وإلى الإدراك، ثمّ يقول كلمة الفصل في زهو وفخر مستعينا في كلّ ذلك بإحاطته المعرفيّة، وسعة اطّلاعه وكثرة المراجع لديه في التفسير والحديث والفقه والأصول واللّغة وآدابهاquot;( أعلام من الزيتونة لمحمود شمام، ص،242 ).
والمتتبع لآثاره وخاصّة تفسيره: التحرير والتنوير.
يلاحظ فتاوى نيّرة لم يسبق لها الشيخ حلّ بها إشكالات عديدة في أيّامه ليزيح السّتار عن الغموض الذي حفّ بالكثير من القضايا والنّوازل العويصة التّي لم تستطع الأقلام السّابقة أن تخوض فيها تحت تأثير التّقليد.
وهذه بعض الفتاوى التّي كان فيها الشيخ ابن عاشور حقّا مجتهدا:
1 فتوى في لبس قلنسوة أهل الكتاب.
ورد سؤال للشيخ محمّد عبده من الحاج مصطفى الترنسفالي يقول فيه: quot; يوجد أفراد في بلاد الترنسفال تلبس البرانيط لقضاء مصالحهم وعود الفوائد عليهم، هل يجوز ذلك؟.
قال الشيخ الإمام:
quot; أمّا مسألة القلنسوّة فحسبهم من حيث التّقليد أنّ الفقهاء ما قالوا إنّ لبس أيّ شيء من ثياب الكفّار موجبا للردّ، إلاّ لباس الدين، حيث ينضمّ إليه قرائن تفيد كثرتها قطعا، بأنّ صاحبه انسلخ عن الدّين.
وفرق عظيم بين نحو الزنار لباس الكنيسة وبين لبس القلنسوة ونحوها من لباس الشعب والأمّة التي ما كان الدّين فيها إلا ّاتفاقيا، وقد أنهى بعضهم حكم لبسها إلى الوجوب، وبين الردّة والوجوب مراتب كثيرة منها الكراهة أو الإباحة.
والذي يجب أن ينظر نظر المفتي عليه من التقليد ما يمكنه مع ذلك أن يجزم بحالة الحكم في صورة الاستفتاء.
فإن كنّا من أهل النّظر قلنا إنّ الردّة والإيمان أمران لا يتعلّقان إلا بالفوائد، والإسلام شيء يتعلّق بالإذعان إلى الأحكام الشّرعيّة، والإعلان بتصميم القلب على تصديقها فلا يبطلان إلا حيث انهدمت هذه المقوّمات، وربّما كان بعض اللباس مع بعض القرائن مؤذنا بانسلاخ صاحبه من الإسلام، ولكن يكون ذلك حيث يكون اللباس لباس الدّين لا لباس الأمّة، وحيث ينضمّ إليه ترك الإعلان بكلمة الإسلام والتردد على شعائره، وكلّ واحد من هذين كاف في الردة وفاقا وخلافا بين العلماء، أمّا التزام عادة من عادات الكفار لحبّ في العادة لا في دين أهلها، أو لانطباق على حاجة الرقي في ا لوجود المدنيّ فليس من الكفر في شيء.
ليس إسلام العربي في عمامته وإلا لكفر إذا خلعها عند وضوئه، ولا كفر الكافر في قبّعته، وإلا لكان مسلما إذا كشف عن رأسه للسلام،وإنّا ننظر أنواع الشعوب الذين اتفقوا في الدين يختلفون في اللباس اختلافا بعيدا، وما يقضي ذلك باختلافهم في الدين كاختلاف أصقاع المسلمين بين حجازي وتركي وفارسي ومصري وتونسي، كل لباس منها يخالف لباس الآخر خلافا بيّنا، الكلّ غير الصحابة،فإذا لبس الرّجل لباسا باعتبار أصالته فيه، فذلك الواجب أدبا عليه.
و قد كان النّاس يدخلون في دين الله أفواجا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين فما سمعنا..... أحدا منهم أمر فارسي أن يتحوّل إلى اللباس العربيّ.
ثم ّمشاهدة المساواة اليوم بين مسلمي القطر الواحد وكفاره في زيّ واحد شاهدة على ما نقول،...
هل كانت ثياب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من العرب، أم هل علمناهم حين دخلوا في الحنفيّة استبدلوا لبوسهم؟
كلاّ إنّ الدّين لأكبر من الاهتمام بما يهتم له الملشطات وسخفاء المزيّنين. أمّا استبدال الرجل بزيّه زيا آخر كان بلا داع يقصد للعقلاء، فشيء يدلّ على سخافة عقل وانحراف إدراك،ولذلك يتّخذ سخريا بين النّاس في كلّ زمان ومكان... ( مجلة المنار، مج 8، جزء 24 16 ذي الحجة 1321 ه، مارس 1904 م،936 -937 نقلا عن فتاوى الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور جمع وتحقيق د. محمد بوزغيبة مراجعة قسم الدراسات والنشر بالمركز، نشر مركز الماجد للثقافة والتراث- دبي الطبعة الأولى 1425 ه 2004 م ).
2 فتوى لبس الجلابيب:
قال الله تعالى:quot; ياأ يها النّبيّ قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهنّ ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما (الأحزاب:39 ).
قال في ا لتحرير والتنوير:
quot; والجلابيب جمع جلباب، وهو ثوب أصغر من الرّداء وأكبر من الخمار والقناع، تضعه المرأة على رأسها فيتدلّى على ذراعيها وينسدل سائره على كتفها وظهرها، تلبسه عند الخروج، والسّفر، وهيهات لبس الجلابيب مختلفة باختلاف أحوال النّساء تبيّنها العادات، والمقصود وهو ما دلّ عليه قوله تعالى:quot; ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذينquot;.
وكان لبس الجلابيب على شعائر الحرائر، فكانت الإماء لايلبسن الجلابيب، وكانت الحرائر يلبسن الجلابيب عند الخروج إلى الزيارات ونحوها، فكنّ لا يلبسنها في الليل عند الخروج إلى المناصع، وما كنّا يخرجن إليها إلا ليلا، فأمرن بلبس الجلابيب في كلّ خروج rsquo; ليعرفن أنهنّ حرائرrsquo; فلا يتعرض إليهنّ شباب الدعارة يحسبنهنّ إماء، أو يتعرض إليهن المنافقون استخفافا بهنّ، بالأقوال التي تخجلهنّ فيتأذين من ذلك،وربّما يسببن الذين يؤذونهنّ فيحصل أذى من الجانبين، فهذا من سدّ الذريعة.
والإشارة بquot;ذلكquot; إلى الإدناء المفهوم من quot; يدنينquot; أي ذلك اللباس أقرب إلى تعرّف أنّهنّ حرائر بشعار الحرائر، فيتجنّب الرجال إيذائهن فيسلموا ويسلمن. quot; ( التحرير والتنوير،22 / 106 -107 ).
3 الفتوى في الزّينة والجلباب والجلابيب أيضا:
في القرآن:quot; ياأيّها النبيّ قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهنّ من جلابيبهنّ ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذينquot;( الأحزاب: 59 ).
فهذا شرع روعيت فيه عادات العرب، فالأقوام الذين لا يتّخذون الجلابيب لا ينالهم من هذا الشرع نصيب.
والتّفقه في هذا والتهمّم بإدراك علل التشريع، لأن يكون أصلا يقاس عليه نظيره وبين ما لا يصلح لذلك فليس الأمر في التّشريع على سواء. ( المقاصد، صص 90-91 ).
وفي حكم التزيّن يقول أبن عاشور:quot; وكذلك قد أخطأ بعض المتقدمين في حكم وصل الشّعر للمرأة ذات الزّوج،وتفليج أسنانها وتنميص حاجبيها، فجعل لذلك من التغليظ في الإثم ما ينافي سماحة الإسلام تمسّكا بظواهر أثر
يروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلquot;،لعن فيه الواصلة والواشمة والمتفلّجة والمتنمّصة وأنا أجزم بأنّ ما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك ndash; إذا كان كذلك ورد عنه ndash; إنّما أراد به ما كان من ذلك شعارا لرقّة عفاف نساء معلومات quot; ( المقاصد، 111 ).
يورد الشّيخ محمود شمام تعليقا على هذه الفتوى قائلا:quot;
فالشيخ ابن عاشور رحمه الله يفتي هذا بحلية لبس الباروكة وما شباهها وتزجيج الحواجب وتكحيل العيون تفهّما لمعنى الأثر والمورد الذي ورد فيه لأنّ هذه الأمور يقصد بها الآن الزينة لا تغيير خلق الله ولا تبديله وما ورد من نهي على فرض صحته وصحة سنده فالمقصود به نساء في ذلك العصرا تصفن برقّة في العفاف وضعف في الدّين وسوء السيرة ولا يشمل كافة النّساء ولا كافّة العصور... وهكذا انحلّ هذا الإشكال الذي تعثرت الأقلام في تفسيره وعجزت الأفكار عن حلّه وحتّى أفتى به بالرأي السديد والفهم الرشيد أستاذنا الجليل رحمه اللهquot;. ( أعلام الزيتونة،صص،256-257 ).
4- فتوى شهادة المرأة:
ليست الشهادة هي الغرض الأساسي في قوله تعالى:quot;واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتانquot;(القرة:282 ).
جلّ المفسّرين اعتبروا المرأة ناقصة عقل ولذلك لاتجوز شهادتها في الدّيون إلاquot; بحضور امرأة ثانية ورجل. يرى ابن عاشور أن الغرض الأساسي منحضور امرأتين في الشهادة على الّين تشريك المرأة التي كانت معزولة عن الأنشطة التي اختص بها الرّجال فقال عن حضورهما:quot;فيه مرمى آخر وهو تعويدهم بإدخال المرأة في شؤون الحياة إذ كانت في الجاهليّة لاتشترك في هذه الشّؤون العامّة فجعل الله المرأتين مقام الرجل الواحدquot;( التحرير والتنوير،3/ 109 ). فيؤكّد أن القرآن لم يجعلquot; المرأتين مقام الرّجل الواحد لنقص في خلقها أوعقلها كما يحاول خصوم نهضتها إثباته، فلو أنّ الأمر لم يبعد أجله كالدّيون وكان أمرا يشاهد بالعين أو يسمع بالأذن فهل نتّهم المرأة هنا بنقص في أخلاقها وهو غير ما علّل به القرآن تبعيض شهادتها في توثيق الدّيونquot; على حدّ عبارة الطّاهر الحدّاد في كتابه امرأتنا في الشريعة والمجتمع.
هذه أمثلة من اجتهاد علماء تونس المتنورين ويمكن الاقتداء بهم اليوم وتطوير الاجتهاد لصالح الإنسان والمرأة خاصة ولصالح الشريعة فلا يبقى الناس خاضعين لسلطة التقليد المذموم الذي يأتي بفتاوى هي في وادي وقضايا الناس في وادي آخر وخاصة فتاوى النساء التي دخلت تحت سقف فوضى الفتاوى في هذا الزمن وسيكون لنا موعد مع أنواع من تلك الفتاوى التي تخالف الشرع والعقل.
أستاذة الدراسات الإسلامية بجامعة الزيتونة تونس