quot;الجنة غير موجودة. أما الجحيم فنحن فيهquot; (سارتر)
لولا أنْ صادفَ، يوم ذهابي الى مستشفى باريسي لعيادة طبيبي، أنْ قرأتُ افتتاحية عبد الباري عطوان في quot;القدس العربيquot; عن quot;العَشاء الأخيرquot; مع محمود درويش وصبحي الحديدي، لمّا فكرتُ في كتابة هذه السطور. لم أقرأ إلا القليل من شعر درويش ونثره. لم تربطني به علاقة خاصة.
في أوائل السبعينات، التقينا صدفة في مركز الأبحاث الفلسطينية، في بيروت، لقاءً غير سعيد ليس هنا مقام الخوض فيه. إذن، ليس ثمة من مبرر موضوعي أو ذاتي لأي رثاء. لكن افتتاحية عطوان الصادقة أثارت شجوني. قرأتها وكأنني أسمع صوت محمود درويش من وراء تابوته يحتج على نذالات أقوياء هذا العالم.
النذالة رقم 1
نذالة الحكومة الأمريكية التي ظلت تماطل لأكثر من 4 شهور لإعطاء التأشيرة لمريض في خطر الموت، لإجراء عملية جراحية في الولايات المتحدة. ولو لا توسيط الرئيس محمود عباس وزيرة الخارجية الأمريكية شخصيا لمّا حصل عليها في اللحظة الأخيرة من حياته!
النذالة رقم 2
نذالة الحكومة الإسرائيلية، التي عبرّت للمرة الواحدة بعد الألف عن حقدها الدفين على الفلسطيني حيّا وميّتا، عندما رفضت عودة جثمان شاعر فلسطين لمجرد أنْ يدفن في مسقط رأسه. لكنها، في المقابل، ترحّب بدفن أي يهودي في القدس مهما كان البلد الذي ولد وعاش ومات فيه. طبعا ليس هذا تمييزا بين الأموات، بل مجرد إجراء إداري بريء!
النذالتان، الأمريكية والإسرائيلية، إجراميتان بقدر ما هما غبيتان. متلقّي الرسالتين الأمريكية والإسرائيلية في فلسطين وخارجها فهمهما كإعلان مضاد للصداقة مع الأولى وللسلام مع الثانية؛ فهل هذا ما كانتا تريدان؟ ربّما.
النذالة رقم 3
نذالة ذوي القربى وهي الأشد مضاضةً على النفس من النذالتين الأمريكية والإسرائيلية: نذالة ياسر عرفات. بعد استقالة محمود درويش من مسؤولياته في أجهزة منظمة التحرير الفلسطينية احتجاجا على أوسلو؛ عاقبه رئيسها يومئذ، عرفات، بقطع مرتبه فعاش في باريس لا يكاد يفارق شقته لعجزه عن دفع ثمن قهوة مدعويه، كما كتب عبد الباري عطوان. النذالة طبيعة ثانية في حكام أرض الإسلام على مر العصور؛ ألم يمت فاتح الأندلس، طارق بن زياد، وهو يتسول في شوارع دمشق الباذخة لمجرد أن الخليفة غضب عليه فكافأه ndash; رحمةً منه ndash; بقطع رزقه بدلا من قطع عنقه؟ ومع ذلك، فجوع محمود درويش في باريس فاجأني. لأني كنت أعتقد دائما أن ملعقة عرفات الفضية لم تفارق فمه منذ التقيا. عرفات الذي كان سخيّا مع كلاب القلم العرب، وما أكثرهم، عملا بشعاره المعروف من مقرّبيه: quot;كلب ينبح معي خير من كلب ينبح عليّquot; جوّع شاعر فلسطين!
لو كنت أعلم أن محمود درويش كان يكابد جوعه بصمت لدعوته الى مرافقتي إلى طابور مطاعم الفقراء الباريسية، الملاذ الأخير لمن أبوا تأجير أقلامهم لأقوياء هذا العالم الذي نعرف.
إذن، أقف دقيقة صمت لذكراك الزكية يا محمود.