quot;إن ارادة السلام ليست أولا رفض الحرب، بل رفض الظلم... وحضور العدلquot; جان ماري مولر
وسط أتون التناحر والتنافر وانتشارالمفاهيم السلبية المسيطرة على علاقات الافراد والجماعات والدول، وفي سياق باتت سيطرة الدول الكبرى واضحة من خلال العولمة الاقتصادية والتفوق العسكري وامتلاك السلاح النووي، وفي ظل التراجع الحاد لمستوى الحريات والديموقراطيات في دولنا العربية، فإن الانسان يجد نفسه مطالبًا بالبحث عن quot;لغةquot; أخرى للتواصل مع الانظمة الحالية الداخلية، وطريقة أجدى لمواجهة التحديات الخارجية، وطرح آلية مختلفة من التفكير.
ويشير التاريخ البشري الى دور السلطة وحب السيطرة في ممارسة العنف الظاهر والمقنّع، حيث يكاد العنف ان يكون سيد التاريخ بامتياز، من خلال المعارك والحروب الضارية، سواء كانت تعكس سيطرة اتباع دين على أتباع دين آخر، أو دولة على دولة ثانية، او بهدف سيطرة طبقة مجتمعية على طبقة مجتمعية أخرى...في وقت اعتادت المجتمعات البشرية على العنف واعتمدته كوسيلة ناجعة ونزيهة للدفاع عن quot;هويتهاquot;، فإنها اضافت الشرعية عليه ووصفته ممارسيه بالأبطال!
مفهوم اللاعنف في الذهنية العربيّة:
كثيرًا ما تعرّضت لهجوم لاذعٍ خلال النقاشات الدائرة مع بعض النخب الثقافية العربية، حول مفاهيم الممانعة واللاعنف، حيث ان مفهوم اللاعنف ارتبط في الاذهان quot;العربية والاسلاميةquot;، بالإذعان والاستسلام والخنوع ؛ وانه مجرد مفهوم اخترعه quot;الاسرائيليquot; لوقف الكفاح المسلح، وان تسويقه يخدم بشكل مباشر استراتيجية المشروع الاسرائيلي في المنطقة، وانه يتضمن في طياته حمل الشعوب العربية كافة والشعب الفلسطيني تحديدًا على القبول بالتنازل عن الحقوق المشروعة، وان استراتيجية اللاعنف تهدف الى النيل من quot;المقاوماتquot;، لذلك فإنه يتم تصويردعاة اللاعنف في الوسط الشعبي على أنهم خونة للقضايا العربية المحقة وانهم عملاء يلعبون لعبة شريرة تهدف الى تجريد المواطن من حقوقه.
في حين أن مفهوم اللاعنف هومفهوم quot;مقاومquot; يتضمن رفض الرد على العنف بالعنف، وذلك يكتنز شجاعة وطاقة عالية على المواجهة والتحدي والحيلولة دون تذرّع الخصم بالعنف للرد على العنف.انه الخروج من سلسلة الصراع المنبني على العنف والعنف المضاد وهويعد الاجدى لتثبيت الحق الفلسطيني، في وقت نرى تصاعد وتيرة الخطاب العنفي عند الاطراف الفلسطينية والاسرائيلية على الدوام، مما جعل الاسرائيلي بحالة تذرّع دائم لتبرير ممارسة اضطهاده وقمعه، الأمر الذي ادخل القضية في دائرة الصراع الدموي ودفع بشريحة كبيرة من الشباب في المجتمع الفلسطيني الى تبني quot;حمل السلاح quot; لمواجهة الالة العسكرية المتغطرسة الجبارة.
لقد ادرك العديد من الفلسطينين اليوم، اهمية العمل على احداث نقلة في نوعية quot;الصراعquot;، وفي هذا الاطار يشير مبارك عوض مؤسس مركز الدراسات الفلسطيني للاعنف ان خيار الممانعة السلمية لا سيما لفلسطيني 48 والداخل هو الخيار الافضل حيث قال:quot;ان اللاعنف في هذه المرحلة التاريخية الخاصة أقله بالنسبة لمليون وثلاثمائة ألف فلسطيني خاضعين للاحتلال الاسرائيلي هو المنهج الأكثر فاعلية لإعاقة سياسة التهويد quot;
إن التفكير الهادئ في القضية الفلسطينية يجعلنا ندرك ان عملية امتلاك الفلسطينيين للسلاح امرٌ متعذر وان فرصة احداث توازن عسكري وتكافئ تكاد تكون معدومة، وآن الاوان بعد مايزيد عن 50 عامًا مارست فيه الفصائل الفلسطينية العمل المسلح أن تجرّب خيار quot;الممانعة والمقاومة اللاعنفيةquot; التي من شأنها أن تكون فعالة حيث ستحرج الجانب الاسرائيلي دوليا وداخليا، وهو حل ناجح لوقف التوطين وبناء المستعمرات ومصادرة الأراضي.
اللاعنف وازمة أنظمة الحكم:
إن المواطن العربي عانى الأمريّن من عنف الانظمة داخليا ولديه شعور عارم بالنقمة تجاه رؤسائه في الداخل، مترافق مع احساس بالغ بالبغبن في السياسة الخارجية، ولما كانت اغلبيية الزعماء العرب تسوغ العنف كأداة لقمع الشارع، فإنهم اعتمدوا الصراع كمحور أساسي لتمثيل مصالح شعوبهم، فوقعوا أسرى جنون عظمتهم وفوبيا الكرسي بعد ان أصبحوا رموزًا للانانية والعنف ومضرب مثل في استخدام كل ما يستنزف الشعوب.
ولنا أن نسأل ماذا سيتركون لشعوبهم بعد رحيلهم؟؟وكيف السبيل الى التعامل مع انظمة كهذه؟ في ظل غياب انتخابات عادلة؟
في هذا السياق يشير مولر الى ان استراتيجية العمل اللاعنفي:quot;لا ترمي الى امتلاك السلطة مباشرة من أجل الشعب. بل الى ممارسة الشعب للسلطة أولا. ففي الشوط الأول لا ينبغي الاعداد لهجوم جبهي على سلطة الدولة. بل الى تنظيم المجتمع المدني لإتاحة الفرصة للمواطنين لممارسة سلطتهم الخاصة مباشرة. quot;
فالمقاومة اللاعنفية لا ينحصر دورها على الجانب الاعتراضي السلمي بطبيعة الحال بل تسعى الى احداث دور فاعل في البنية السياسية؛ وبما ان مجتمعاتنا العربية تكاد تكون طريق الوصول للسطة فيها عبر الانتخابات مسدود، فإن العصيان المدني يبقى هو الاداة السلمية الوحيدة التي من شأنها حمل السلطة على التنحي والزعيم على الرحيل.
ان عملية رفض تبني خيار العنف يعني رفض الخضوع لمنطق العنف والرد عليه بمثله. لان الخروج من دائرة ردود الافعال يعني الانتقال الى مستوى آخر من المنطق وفهم اعلى للعلاقات الاجتماعية، والعصيان المدني السلمي أحد أهم وسائل الحد من طغيان الانظمة، لأن القانون الذي يحقر الشعب لا يستحق الطاعة والاحترام أصلا.
اللاعنف خيار الإنسان الواعي:
ان اللاعنف هو بلورة لأقصى درجات الانسانية وارقاها وهو يجسد ممانعة حقيقية صارمة، من خلال اللاتعاون مع كافة الاشكال المؤدية الى الظلم، إن التجارب الانسانية على مر العصور اثبتت ان أفقها غير محدود ولا متناهي، اذ انه من الممكن الانعتاق من دوامة العنف عبر الوعي الانساني والخبرة الروحية الموجودة أصلا في أعماق كل كائن انساني.
فعندما يرتقي الانسان بوعيه ويتطور، ينتقل من مرحلة معرفة الحقائق الى اختبارها المباشر فتسقط الحاجة لديه لإثبات تفوقه ووممارسة ما يعرف بالسيطرة، لأنها ارتقاء بالوعي البشري من المستوى الغرائزي اللاواعي المنبني على ان السلطة هي القوة والقوة تصنع الحق، الى مستوى الوعي القائم على ان الحق يقرره التحليل والعقل لا القوة، و تتحول الصراعات من صراعات شخصية تهدف الى مجرد التفوق على الاخرين الى صراعات نابعة عن مبادئ وتحترم الخصم و تهدف الى البحث الحثيث للوصول الى الحقائق، ويبقى الصراع على هذا المستوى قائم ولكن ذو طابع فكري.
اما المرحلة الأعلى من مراحل الارتقاء فتنعكس بالوعي الأعلى للوجود حيث يتجاوز الوعي الانساني المادية السياسية بوصفها صراعا الى ان تصبح فنًّا لادارة اعمال مبادئ العدالة وتنمية ثقافة اللاعنف والابتعاد عن اشكال الاكراه كافة فإرادة السلام لا تكون برفض الحرب بل في رفض كل أشكال الظلم والاستبداد.
هوامش:
Jean Marie Muller - Dictionnaire de la non violence ndash; 2005 1-
2- من كتاب على خطى غاندي، كاثرين انغرام، ترجمة أديب الخوري ومراجعة ديميتري أفيرينوس، 2008
3- العودة الى مقالة الكاتبة المعنونة: quot; السياسة والغريزة في عصر الإنسان الأدنىquot; حيث تناولت مفهوم السلطة وعلاقتها بالوعي الانساني .