quot;إن مبنى الملك على أساسين لا بد منهما: فالأول الشوكة والعصبية، وهو المعبّر عنه بالجند؛ والثاني المال الذي هو قوام أولئك الجند quot; ابن خلدون
يتميز عصرنَا الحالي بتصاعد وتيرة العنف بشكل مقلق، ويتسم بتنامي قوّة quot;الدولةquot; وارتباطها بكافة مناحي حياة الانسان اليومية اقتصاديًّا واجتماعيًّا واعلاميًّا وأخلاقيًّا.... حتى أمست quot;الدولةquot; حاضرة أحيانًا في وجدان الفرد أكثر من حضور نفسه فيه.
ومن الطبيعي أن نتساءل لماذا تنتهج quot;الدولquot; السبل العنفية لتحقيق مآربها؟ وما هي الطرق التي ينتهجها quot; الساسة quot; للتوصل الى quot;الهيمنة quot; شبه المطلقة على الشعوب؟ وما هي الاليات التي اعتمدها quot;هتلرquot; او quot;ستالينquot; للسيطرة والتوسع... ممن أقحموا العصر في اتون حروب مدمرة، ولماذا أُدين هذين الرجلين مثلا دون سواهما؟ ولماذا يدان quot;المنكسر المنهزمquot; في الحروب الكبرى ويوصم بquot;السفاحquot; في حين ان quot;المنتصرquot; المسيطر يُصور على أنه quot;فاضِلٌ بطل شجاع؟؟ واعتبار ان كل المعارك التي خاضها هي quot;حروب عادلةquot; و محض quot;دفاعٍ عن الانسانيةquot;؟؟
مازال quot;زعماء الدول quot; حتى اليوم يمارسون شتى أنواع العنف الداخلي والخارجي ويزجون الشعوب في اتون حروب، مستعملين لذلك وسائل أكثر قذارة من تلك التي استخدمها quot;هتلر quot; في عصره ؛ فالابحاث التي تُحَضَّرُ لولادة اسلحة quot;جينيةquot; وبحوث quot;الاستنساخ البشري والتعديل الجيني quot; جارية على قدم وساق والاسلحة النووية منتشرة في كثير من الدول، والاسلحة البيولوجية والفيروسية ما زالت تخصص لها ميزانيات ضخمة تحت مسميات quot; الابحاث العلميةquot;...
هذه القضايا لا تنذر بالسلام ولا بالخير العميم، وجشع quot;الهيمنةquot; يكاد يكون المسيطر الابرز على العلاقات الدولية الآن، وان اتخذ لغايته أقنعة منمّقة وادوات quot;راقيةquot;، وتخفَّى بشعارات quot;انسانيةquot;.....
مجتمعات بلا دولة:
تاريخيًّا ؛ لقد شهدت الحضارات الانسانية مجتمعاتٌ بلا دولة، وحتى عهد قريب كانت بعض المجتمعات القبلية ترفض quot;سلطة الدولة quot; وتتهرب منها ولا تتعاون مع مؤسساتها مفضلة العيش في الادغال او الصحراء على الانضواء تحت سلطة معينة على بقعة جغرافية ضيقة.
إن ملاحظة بزوغ الدولة عبر تاريخ الامم يُظْهِر أن ولادة quot;الدولquot; ارتبطت بquot;العنف الدامي quot; حيث أن quot;الزعيم العسكري quot; يوّلد سلطته بquot;النصرquot; وquot;الغزواتquot; وبقوة السلاح وبارتكاب المجازر في كثير من الاحيان.
فالمسار السلطوي لقيام دول أو انهيارها، ارتبط بالعنف quot;الكارثي quot; وquot;الحروب الدامية quot;، التي تعمل على توليد معطيات جديدة مغايرة للواقع السابق، تليها فترة كمون تستقر فيها المجتمعات، وتتبلور فيها العلاقات الاجتماعية وغيرها من جديد لتتمأسس السلطة على شكل quot;دولةquot; جديدة.
وقد شكّل مفهوم الدولة وعلاقته بالسلطة محورًا أساسيًّا في البحوث السياسية، غير أن علاقة السلطة بالمعارف الانسانية، لم تحظى بالاهتمام نفسه من قبل الباحثين، وبقيت الطروحات الفلسفية ومفاهيمها التقليدية متمركزة خارج الدائرة السياسية وان اقتربت منها، علمًا انه لا يمكن لنا تناول الموضوعات الفكرية والفلسفية او دراسة اي حالة تخص الواقع الانساني والمجتمعات البشرية بمعزل عن السياسية وان حُيِّدَت عنها، فالمعرفة ترتبط بالسياسية وتتجاوزها، وهي غير مستقلة بذاتها وان ارتدت على كل السلطات ونقدتها.
لقد حاول هيغل في طروحاته الفلسفية ربط تاريخ الفلسفة والحق والمعرفة بتاريخ quot;الدولةquot;. حيث اعتبر أن التاريخ السياسي هو ليس الا تاريخ الفكر الذي يتشكل في الاجتماع والعقلانية والعلاقات بحيث يتجسد على شكل دولة ؛ فالدولة بنظر هيغل هي هدف quot; العقل المجتمعي quot; وهي quot;جوهرquot; بحدّ ذاتها؛ أما ماركس فقد استبدل الاطروحة الفلسفية بquot;القوى المنتجةquot; التي تحدد بنيات المجتمع الفوقية ومنهاالايدولوجيات والمؤسسات والدولة.. وعنده فإن الدولة تتضمن quot;الصراع الطبقي quot; وquot;عنف الطبقاتquot;...
بطبيعة الحال فإن طرح ماركس هو تقييم quot;كلياني شمولي quot; للدولة يحدد شروط quot;أفول الدولةquot; بدلا من ولادتها،في مجتمع متصارع تغزوه الكثير من التناقضات.
ولعل أحد اهم ثغرات الفكر الماركسي أنها لم تلحظ الانماط السلوكية والانشطة المجتمعية التي لا سمة طبيعية اومنطلقات مادية لها، فإرادة quot;القوة quot; وquot;الهيمنة quot; لا يمكن اختزالها كلها بالجانب quot;الاقتصاديquot; وحسب، وان كانت الموارد الانتاجية هي أهم مكونات السلطة وممارستها.
مفهوم quot;السلطةquot; وعملية ادارة العنف:
تُحدد الشروط السلطة السياسية وحدودها بوجود الموارد الطبيعية والبشرية، اما عملية المحافظة على كيانها فيرتبط بادارة الموارد عبر quot;القوانين والانظمة والأعراف quot; التي تعيد انتاج العلاقات عبر المجتمع، وهنا تبرز اهمية الضوابط القيمية و الأيديولوجيات.
لقد تطور quot;استعمال العنف quot; في عصرنا الحديث؛ بعد أن كانت quot;السلطةquot; تمارس عنفًا quot;مباشرًا وخالصًا quot; عبر استخدام المرتزقة والنهب المباشر و السلب والاحتلال وفرض الجزية والخراج...فإن العنف الحالي في quot;السلطة الحديثة quot; يتمثل في ايجاد quot;ارضية قانونية quot; حديثة تقنّع العنف وتنطلق من خلالها، لان ديمومة انتاجية quot;العنف المباشرquot; انهارت تحت وطأة متغيرات العصر الحديث، ومع ذلك فإن quot;السلطة السياسيةquot; تخرق الحدودquot;القانونيةquot; التي وضعتها لنفسها عبر الحروب التي تصبح ممكنا بواسطة شروط معينة.
إن الدولة إذن هي عبارة عن كيان سلطوي اعتباري مجرد له وجود اجتماعي ومحسوس، مَثَلها كمثلِ القيمة الشرائية للنقود الورقية، وهي عبارة عن مجموعة علاقات مترابطة تتمثل في إدارة الوقائع، وهي بذلك ليست جوهرًا صِرفًا ولا ممارسة خالصة ؛ وان حاول البعض ربط الدولة بالمفاهيم المجردّة كالقانون والدستور والعدالة... فيما حاول البعض الآخر توصيفها بدولة المؤسسات واشكالها من تكنوقراط او بيروقراط... ولكنها كمفهوم تظل متأرجحة بين المجرد والمادة، وتتخذ من quot;العنفquot; و quot;القمع quot; المنظم أداة لتسيير إرادة quot;الهيمنةquot;.
لا نريد بحاول من الاحوال من خلال هذا المقال ان ندين quot;مفهوم الدولةquot; ونربطه بquot;العنفquot; بإحكام، فمن المتعذر ان نجد واقعًا لا quot;سلطة quot; فيه. غير ان مشهد الانظمة السياسية السائدة في الشرق الأوسط يتطلب منا وقفة تأمل، حيث ان quot;الدولة quot; لا تمثل في أذهان أبنائها سوى جهازا تأديبًّا ومؤسسة quot;عقابية quot; تمارس العنف في محاولة منها للحيولة دون تطور الشعب حضاريًّا والانتقال به الى طور النضج والوعي الثقافي والانساني.
رهاننا اليوم على quot;الانسانquot; فعملية quot;التحررquot; الفعلي من السلطة quot;الجائرةquot; أي quot;سلطة quot; لا تتم الا عبر عملية quot;استيعاب quot; العنف السلبي واعادة انتاجه quot;قوة ايجابيةquot; تحترم الانسان والكون وتجعل من quot;اللاعنف quot; شعارًا لها.
أتساءل دومًا: اليست انسانية الكائن كافية لتسقط كل جوازات السفر؟
[email protected]
http://marwa-kreidieh.maktoobblog.com